التاريخ الديني للجنوب المغربي سبيل لكتابة التاريخ المغربي من أسفل 19- الشيخ الأمي يسلب المريد العالم 2/3

تسعى هذه المقالات التاريخية إلى تقريب القارئ من بعض قضايا التاريخ الجهوي لسوس التي ظلت مهمشة في تاريخنا الشمولي، وهي مواضيع لم تلفت عناية الباحثين فقفزوا عليها إما لندرة الوثائق أو لحساسياتها أو لصعوبة الخوض فيها. ومن جهة أخرى فإن اختيارنا لموضوع التاريخ الديني للجنوب المغربي راجع بالأساس إلى أهميته في إعادة كتابة تاريخ المغرب من أسفل وهو مطلب من مطالب التاريخ الجديد الذي قطع أشواطا كبيرة في فرنسا.

يشترط في الانتماء إلى الطريقة الدرقاوية ، ممارسة الأشغال اليومية التي تمارسها عادة النساء، والتي ليست من عوائد الرجال بسوس، و”علي” قد مارسها مرات ومرات عديدة عن طيب خاطره لمدة ناهزت خمس سنوات، وبالعودة إلى الرسالة التي ألفها الإلغي والتي تحمل إسم “عقد الجمان” والتي يعود تاريخها تأليفها إلى سنة1289هـ/ 1877م يتضح أن الشيخ ذكر المريدين في طريقته بشروط الانتماء إليها والتي من بينها خدمة الشيخ على أحسن وجه، -أي أنه أراد إعادة إنتاج نفس العلاقة التي كانت بينه وبين شيخه المعدري- وعدم الجمع بين الطرق والشيوخ وهو شرط انفردت به الدرقاوية الإلغية و لا نجده إلا مع الطريقة التجانية الاحمدية التي تمنع المريدين الجمع بين الاوراد والمؤاخاة بين الطرق وفي هذا الصد جاء على لسان الشيخ : “يمكن ان يكون للزوجة زوجان، و لا يمكن أن يكون للمريد الذي يريد الوصول على شرط ما عند القوم شيخان”بل إن مجرد التفكير في ذلك شرك بالله. إن الطرق الصوفية بغض النظر عن الدرقاوية، كلها مؤسسة على العلاقة بين الشيخ والمريد، الأول ملقن والثاني مكتسب للتربية والتلقين الصوفيين، إذ لا يمكن الحديث عن هذه العلاقة خارج الاحترام والتقدير الكبير للشيخ، لدرجة أن هذا الأخير يأتي في نظر المريدين في المنزلة الثالثة بعد الله ورسوله، لكن ليس الأمر كما هو في جميع الحالات فأحيانا قد ينشب سجال فكري داخلي فيما بين المريدين و أحيانا مع شيخهم وقد حدث ذلك بين الشيخ “علي الدرقاوي “ومريده “محمد بن مسعود المعدري” كما يستشف ذلك من خلال رسالة بعثها الإلغي إلى مريده السالف الذكر يقول فيها :
“… قد كان شرع القوم أن لا تتبدل المحبة بتبديل الصفات، ولا يمكن للشيخ أن يتبدل المريد عنده، ولو عمل ما عمل، ولذلك قالوا لا يظن المريد أنه ينقص عند شيخه بنقص ظهر منه، فإن ذلك سوء أدب منه، بل يتحقق منه أنه يقبله ويحبه على أي حال. لأن المريد لا يدعي لنفسه إلا الضعف والنقصان أبدا في كل شيء، فكل ما ظهر منه من الضعف لا يبعده شيخه، بل يقربه منه أبدا على التحقيق …”. (نفسه،ص34)
إن السؤال الذي يمكن طرحه هنا هو، ما الذي جعل “علي الدرقاوي” قريبا من شيخه ” سعيد بن همو المعدري”؟ تجيبنا المصادر والأدبيات الصوفية، أن معاملة الشيخ لمريديه لا تكون دائما في نفس الكفة، فالمريدون الذين أبانوا عن الطاعة العمياء للشيخ وخدمته وإخلاصهم له، وكذا مكانة المريد عند شيخه كلها عوامل تجعل من العلاقة تتراوح ما بين التشديد والتخفيف في إقامة الأذكار والأوراد الصوفية، وهو ما حاول أحد الباحثين أن يكشف عنه النقاب من خلال مجموعة من المراسلات التي تم تبادلها بين الشيوخ والمريدين في منطقة سوس (السعيدي المهدي، أدب الرسائل في سوس في القرن الرابع عشر للهجرة،ج2، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في الآداب، تحت إشراف عباس أرحيلة، رسالة مرقونة بكلية الاداب والعلوم الإنسانية باكادير،2002، ص:466.).
لقد لعبت الدرقاوية باعتبارها طريقة صوفية أضاء نجمها خلال القرن التاسع عشر دورا مهما في تحولات مست جوانب متعددة من حياة المجتمع البدوي على وجه الخصوص، فالطريقة التي أسسها “العربي الدرقاوي” والتي تستمد مشروعيتها من “أبي درقة” أحد الأشراف الأدارسة والتي ظهرت إلى الوجود سنة 1239ه/1823م، ستشكل قطبا لمتصوفة سيشتهرون شهرة فاقت تلك التي ميزت المؤسس الروحي، “فعلي الدرقاوي” يتحدث عن شيء غريب خالجه وجعله يستسلم للطريقة التي دخلها صدفة بدون شعور ولا إرادة، يقول السوسي -على لسان زميل للشيخ- بهذا الصدد :
“مررت أنا وصاحب لي بالشيخ سيدي سعيد ونحن فارغا البال، ولم نعرج إليه وهو جالس في مكان منتبذ عن الطريق فرأيناه يحد إلينا بصره، فذهبنا لحال سبيلنا، ثم في العشي ساقنا إليه سائق السعد فأخذنا عنه الطريقة، فقال لي بعد ذلك إن تلك النظرة الأولى هي التي فيها ما فيها، ثم حدث من كان جالس مع الشيخ سيدي سعيد حين مر به صاحب الترجمة (المقصود علي الدرقاوي) مع صاحبه إذاك، فقال أن الشيخ أتبعهما بصره مليا ثم قال إن هذه الذات نيرة، فما أليقها بسر معرفة الله تعالى… وقد كنت حين لقنني شيخي مستغرقا فيه( أي الذكر) من ذلك الوقت قبل قيامي من بين يديه وبعده، وليس لي شغل سواه قياما وقعودا وعلى جنبي حتى أنني لا أقدر أن أقطعه حتى في حال الأكل إلى أن صار خادما من غير إرادتي فكل نفس يعلو أو يهوى يكون معه”. مرت ثلاثة أيام على هذا الحادث و وقع لعلي ما وقع ووجد نفسه منجذبا تجاه الشيخ إلى درجة أن الأهل قالوا بأن الشيخ سحر الابن و أصابه الجنون، وفي حقيقة الأمر فإن الأمر لا يعدو أن يكون جذبا حصل لعلي وهو في البداية الأولى من مساره الصوفي يقول السوسي : ” ثم لم يمض على – علي- إلا ثلاثة أيام مع شيخه في بعض قرى تانكرت حتى أصابه ما يسميه الصوفية في اصطلاحهم بالجذب، قالوا يعتري من فجأ روحه ما لم تستأنس به بعد، فتغمره موجة تياره فيغان على عقله، فلازمه ذلك أياما وقد فقد شعوره وانقطع عن الأكل والشرب… وقد بلغت الحرارة على بدنه …” (المعسول،ج،1 ص،190).


الكاتب : ربيع رشيدي

  

بتاريخ : 16/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *