الحبيب المالكي: ديموقراطية التَّوافُق (16)

سنوات رئاسة مجلس النواب في المغرب

 

بالحرصِ نَفْسِه على هذا التقليد الشخصي، أحاول أن أقف الموقفَ نَفْسَه تُجاهَ مَهَامّي على رَأْسِ مجلس النواب في المملكة المغربية خلال الولاية التَّشْريعية العاشرة (2021-2016).
وهذه المرة، حاولتُ أَنْ أُشْرِكَ معي عددًا من أطر المجلس في تجميع المعطيات وفتح ما يشبه ورشةً من الحوار الجماعي حول عملنا وأدائنا ونوعية النتائج التي حققناها. وقد وجدتُ من الأصدقاء والزملاء في مجلس النواب روحًا سمحة من الإنصات والتفاعل، إِذْ أدرك الجميع معنى هذا التقليد، وبالخصوص أدركوا أَن ذلك من أجل الإِسهام في لَمْلَمَةِ عناصر ذاكرةٍ مشتركة وترصيد التجربة التي كانت جماعيةً بامتياز من أجل المزيد من فهم واقعنا السياسي في المغرب وتأمل سيرورة نضالنا الديموقراطي في أحد أهم أمكنة الممارسة الديموقراطية.

 

IV – تقييم السياسات العمومية
الإنصاف المجالي والتنمية المجالية

 

كَّلَ توسيع اختصاصات البرلمان بموجب دستور 2011 لتشمل تقييم السياسات العمومية، إلى جانب التشريع ومراقبة العمل الحكومي ووظيفة تمثيل المواطنين، إصلاحًا متقدما وحاسمًا. وإن من ميزات التقييم البرلماني الأساسية كونه ذا طبيعة ديموقراطية اعتبارًا لسلطات البرلمان ومكانته الدستورية والمؤسساتية.
ومما يزيد من قوة التقييم البرلماني إنجازه من طرف مختلف مكونات السلطة التشريعية (أغلبية ومعارضة) مما يمنحه شرعية أكبر يرسخها مبدأ استقلالية السلط عن بعضها البعض، فضلا عن أنه يُنجزُ في إطار التوافق بين مكونات المجلس ممثلة في المجموعة الموضوعاتية المكلفة بالتقييم.
ويظل الهدف من التقييم البرلماني للسياسات العمومية، إلى جانب تشخيص إنجاز هذه السياسات وتدبيرها والوقوف على أدائها، هو تَبَيُّنُ أَثَرِها على المجتمع، أو على فئة من السكان أو مجال جغرافي أو قطاع من القطاعات تتدخل فيه الدولة بتدابير واستثمارات وخدمات. ومن شأن ذلك أن يعزز حكامة المرفق العام والإنفاق العمومي. وتلك وظيفة بيداغوجية لا يمكن إغفالها.
إننا بصدد تحليل نتائج وآثار السياسة العمومية موضوع التقييم، والتي تكلف الإنفاق العمومي بالطبع، في علاقتها بالفئات السكانية المستهدفة والمستفيدين النهائيين منها.
وهكذا، فإن الأمر يتعلق بممارسة وظيفة برلمانية جديدة أضفت نوعًا من التجديد والتحديث والدينامية على العمل البرلماني في علاقته بالتدخلات العمومية، وعززت سلطات واختصاصات البرلمان.
ودون أدنى مبالغة، كان مجلس النواب من المؤسسات التشريعية القليلة في العالم التي وفرت لنفسها إطارًا مرجعيا للتقييم تم إعداده وإصداره خلال النصف الثاني من الولاية التشريعية التاسعة (2011-2016). وتعتبر هذه الوثيقة بمثابة دليل عملي يُسعف في إنجاز أعمال التقييم من جانب مجلس النواب، ويتضمن منهجية ومراحل هذا التقييم، والجهاز المفاهيمي المستعمل في أعمال التقييم وتنظيمه، وغاياته.
وأود في هذا السياق أن أثني على الجهود التي بذلتها السلطات السياسية لمجلس النواب خلال النصف الثاني من الولاية التشريعية التاسعة برئاسة الزميل راشيد الطالبي العلمي الذي سهر، مع مكتب المجلس، على إعداد وتدقيق وطبع هذه الوثيقة المرجعية في أعمال التقييم، والتي أخذت بعين الاعتبار، فضلا عن سياقنا الدستوري والمؤسساتي الوطني، الممارسات المقارنة الجيدة مما أثمر إطارًا مرجعيا ييسر عمليات التقييم، ملائم للسياق المغربي.
وبناء على التراكم المنجز خلال الولاية التشريعية التاسعة، واصلنا ممارسة هذا الاختصاص بإنجاز عمليتي تقييم، همت الأولى مساهمة “البرنامج الوطني الثاني للطرق القروية في فك العزلة عن المجال القروي والجبلي بالمغرب”، والثانية “التعليم الأولي بالمغرب”. وقد قررنا في إطار مكتب المجلس على أن نعتمد في إنجاز عمليتي التقييم هذه على الإمكانيات البشرية للمجلس ممثلة في المجموعة الموضوعاتية مسنودة بأطر مديرية المراقبة وتقييم السياسات العمومية.
وقد كان الغرض من ذلك هو تمكين المجلس من اكتساب الخبرات والمهارات في مجال التقييم ومراكمتها وضمان استدامتها، وإنجاز عمل يجسد بالفعل استقلالية السلطات ومطبوع ببصمة المؤسسة، وجعل مكونات المجلس، معارضة وأغلبية، سيدة نفسها في ما يخص إعداد التشخيص وتحليل أداء السياسات العمومية وآثارها على المجتمع، وإنجاز تقرير بمحتوى موضوعي تساهم مكوناتُ المجلس جميعُها في صياغته.
وتعزيزًا لقدرات المجلس على إنجاز مهامه، أحدثنا وحدة إدارية مكلفة بالتقييم، في إطار توسيع مهام مديرية المراقبة التي أحدثناها في المنظام الجديد لمجلس النواب لتشمل المراقبة والتقييم، وسعينا إلى تمكينها تدريجيا من الموارد البشرية اللازمة وبتخصصات مختلفة للقيام بمهامها.
ويبقى الهدف من هذه الإجراءات الاعتماد على الموارد البشرية والكفاءات الذاتية للمجلس، والعمل على تملُّكِها لتقنيات تقييم وإنجاز التقارير المرتبطة بتقييم السياسات العمومية، وفق المعايير المتبعة في هذا الإطار بدل الاستعانة بمكاتب دراسات خارجية.
راهنية التمكين للمجال الجبلي والقروي بالمغرب
عندما كنا نتوافق في إطار مكتب مجلس النواب، ومع رؤساء الفرق ورئيسة المجموعة النيابية على السياسة العمومية التي ينبغي أن تكون محل تقييم سنوي من جانب المجلس برسم السنة التشريعية 2017-2018، فإننا كنا نستحضر عدة اعتبارات : الراهنية، والحاجيات والإنصاف المجالي والقطاعي، والتمكين من الحقوق، وجدوى التقييم ومدى إسهامه الممكن في تطوير السياسة موضوع التقييم، فضلا عن الإصغاء إلى مطالب ومرافعات المجتمع، المُعَبَّر عنها سواء من طرف الأحزاب السياسية أو هيئات المجتمع المدني أو البرلمانيين أنفسهم.
وكان من البديهي أن يكون الإنصاف المجالي والتنمية المجالية والمتوازنة من المواضيع التي فرضت نفسها في مداولاتنا الأولية. وقد تم في البداية استحضار الخصاص في المجالات القروية بشكل عام، وتم تحديده كمحور للتقييم. وبما أن موضوع التنمية القروية، وحتى إن حصرناها في المجال الجبلي، كانت موضوعا جِدّ شاملٍ ويتشكل من عدة مكونات، فضلا عن تعدد حاجيات وانشغالات المجال الجبلي في المغرب، فقد توجه تفكيرنا الجماعي ونقاشنا في إطار مكتب المجلس ومع رؤساء الفرق والمجموعة النيابية، إلى التدقيق أكثر في الموضوع وحصره في سياسة فرعية توخيا للإحاطة الجيدة ورفع مستوى المردودية. إلى ذلك، فإن هذا الموضوع بالنظر إلى سعة وحجم وتعدد زوايا النظر إليه، ما كان ليسعف في إحاطة أدق بالموضوع ويجعل المجلس يفي بالمطلوب في وظيفة التقييم. وحين أخضعناه لمعايير قابلية التقييم وفق المنهجية المحددة في النظام الداخلي للمجلس وفي الإطار المرجعي للتقييم الخاص بالمجلس، بَدَا أن الموضوع أوسع وأعمق وأكثر تشعبا من أن يحقق تقييمُه في شموليته، رهانَنَا الجماعي المشترك من التقييم ويحقق الغاية بدءًا من التشخيص والمعرفة بالموضوع ووصولا إِلى الخلاصات والتوصيات.
وقد دفعتنا هذه الاعتبارات إلى حصر موضوع التقييم في محور “مساهمة البرنامج الوطني الثاني للطرق القروية في فك العزلة عن المجال القروي والجبلي بالمغرب “. وأعتقد أن هذا الاختيار كان ناجعًا، إذ أسعف في تشخيص المنجز في هذا البرنامج وجوانب القوة فيه، وفي نفس الوقت إبراز الاختلالات التي تعتريه وجوانب الضعف.
والواقع أن عملية التقييم هذه تتكامل مع عمليتَيْ التقييم التي أنجزهما المجلس خلال النصف الأخير من الولاية السابقة (التاسعة) واللتان تناولتا برنامج الكهربة القروية الشمولي (PERG) والبرنامج المندمج لتزويد العالم القروي بالماء الصالح للشرب (PAGER) . يتعلق الأمر إذن بمراكمة التشخيص في شأن التنمية والخدمات بالمجال القروي من خلال سياسات وتدخلات عمومية رصدت لها اعتمادات ضخمة وساهمت في إطلاق عدة ديناميات بالمجال القروي المغربي. وما من شك في أن ذلك يعزز الاهتمام العمومي بتقييم مشاريع التنمية القروية في شموليتها.
وقد كان هذا الاختيار ناجعا ومنصفا أيضا لعدة اعتبارات منها:
1) أن المجالات القروية، والجبلية بالخصوص، هي خزان طبيعي استراتيجي لعوامل التوازن البيئي والحفاظ على البيئة : الأشجار والغطاء النباتي المتنوع، والثروة الحيوانية فضلا عن أنها مصدر المياه التي تعتبر عصب الحياة والأداة الحاسمة في التنمية الفلاحية في مختلف مناطق المغرب.
2) من جهة أخرى يجسد الاهتمام والعناية بالبادية، والجبال تحديدًا، نوعا من الإنصاف وإعادة الاعتبار والتمكين من الحقوق ومن الخدمات لمجالات عانت من ضعف التنمية والخدمات والتجهيزات الأساسية.
3) فضلا عن ذلك، فإن الجبل في المغرب هو خزان ثقافي غني بالتقاليد الإيجابية في مجالات الزراعة وتربية الماشية والثقافة والعلاقة مع الطبيعة، وتستحق ساكنته المرابطة في هذه المجالات، رغم قساوة الظروف الصحية والاجتماعية، كل العناية والاهتمام.
4) إن العديد من مشكلات مدن اليوم يمكن أن تجد حلها في البادية من خلال الحد من الهجرة القروية وتثبيت الناس في البوادي بجعلها جذابة بتوفير التجهيزات والخدمات الأساسية.
وما من شك في أن عملية التقييم التي أنجزها المجلس لحال الشبكة الطرقية في المجال القروي والجبلي، تعتبر مرافعة من أجل ساكنة هذا المجال، خصوصا والأمرُ يتعلق بتجهيزات أساسية تيسر الولوج إلى العديد من الخدمات والحقوق : التعليم والتكوين والثقافة والاستشفاء والأسواق والتنقل، وترفع المعاناة عن شرائح واسعة من سكان المغرب.
التعليم الأولي: رهان مغرب المستقبل

في سياق التفاعل مع انتظارات المجتمع المغربي، وبالنظر إلى ما تكتسيه قضية التعليم من أهمية خاصة في الأجندة الوطنية للإصلاح، وفي إطار توجيهات صاحب الجلالة الملك محمد السادس وتعليماته السامية بإيلاء الاهتمام اللازم للتعليم الأولي في السياسات العمومية، استقر رأي مكتب مجلس النواب، بناء على اقتراحات الفرق والمجموعة النيابية، على أن يكون “التعليم الأولي بالمغرب” موضوع عملية تقييم السياسات العمومية الثانية برسم الولاية التشريعية 2016-2021.
وقد جاء التوافق حول هذا الموضوع لعدة اعتبارات منها:
الأهمية الكبرى التي يحظى بها إصلاح قطاع التربية والتعليم والتكوين في الاستراتيجيات الوطنية ودور التعليم الأولي في كفالة نجاح الإصلاح، كما أكد ذلك جلالة الملك محمد السادس عندما قال : “لا تخفى عليكم أهمية التعليم الأولي في إصلاح المنظومة التربوية، باعتباره القاعدة الصلبة التي ينبغي أن ينطلق منها أي إصلاح، بالنظر لما يخوله للأطفال من اكتساب مهارات وملكات نفسية ومعرفية، تمكنهم من الولوج السلس إلى الدراسة، والنجاح في مسارهم التعليمي، وبالتالي التقليص من التكرار والهدر المدرسي” النقاش الوطني المؤسساتي والمدني الذي واكب إعداد القانون-الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي والمصادقة عليه، وما ينبغي أن يتفرع عنه من قوانين، وما سيطلقه من ديناميات في مختلف مكونات ومستويات القطاع، ومنها التعليم المبكر لما له من انعكاسات إيجابية على الفرد والأسرة والمجتمع، كما أكد على ذلك جلالة الملك.

 


الكاتب : الحبيب المالكي

  

بتاريخ : 24/08/2021