الحبيب المالكي: ديموقراطية التَّوافُق -04- سنوات رئاسة مجلس النواب في المغرب

بالحرصِ نَفْسِه على هذا التقليد الشخصي، أحاول أن أقف الموقفَ نَفْسَه تُجاهَ مَهَامّي على رَأْسِ مجلس النواب في المملكة المغربية خلال الولاية التَّشْريعية العاشرة (2021-2016).
وهذه المرة، حاولتُ أَنْ أُشْرِكَ معي عددًا من أطر المجلس في تجميع المعطيات وفتح ما يشبه ورشةً من الحوار الجماعي حول عملنا وأدائنا ونوعية النتائج التي حققناها. وقد وجدتُ من الأصدقاء والزملاء في مجلس النواب روحًا سمحة من الإنصات والتفاعل، إِذْ أدرك الجميع معنى هذا التقليد، وبالخصوص أدركوا أَن ذلك من أجل الإِسهام في لَمْلَمَةِ عناصر ذاكرةٍ مشتركة وترصيد التجربة التي كانت جماعيةً بامتياز من أجل المزيد من فهم واقعنا السياسي في المغرب وتأمل سيرورة نضالنا الديموقراطي في أحد أهم أمكنة الممارسة الديموقراطية.

السياق والخطوات الأولى (2)

تـوحـيـد الإرادات المـتـنـافـرة

في موقعٍ دستوريٍّ متقدم مثل المؤسسة التشريعية، ومع تَوفُّر قَدْرٍ كبيرٍ من النضج وحِسّ المسؤولية من حولك، تجد نَفْسَكَ شيئًا فشيئًا تُحَاطُ بأكثر من زملاء وزميلات في مكتب المجلس وفي مختلف اللجن والفرق وفي اللقاءات، وتصبح تدريجيًّا وسط عائلةٍ تتحدد ألوانُ وتوجهاتُ أفرادها دونما حاجة إلى أن تخاطبهم أو يخاطبوكَ حسب لونك السياسي أو بطاقتك الحزبية؛ ففي سيرورة العمل والالتزامات ووضوح خطة العمل الاستراتيجية والبرامج وجداول الأعمال، تتوطد عُرَى الصداقة والأُخُوة، ولا يبقى ثمة من شك، ولا من سؤال إِلَّا حول هذه التفاصيل أو تلك بينما نكون متفقين حول ماهو عميقٌ وأساسٍ وجوهري.
والحق، لقد أفادتني تجربتي البرلمانية الطويلة نسبيًّا التي لم تبدأ مع انتخابي رئيسًا لمجلس النواب. كما أن نظرتي المعتدلة، المُسَالِمة إِنْ صَحَّ التعبير، إِلى الأشياء والأشخاص لم تكن لتَضَعَني أبدًا في مواقف خصومة أو عَدَاء أو تَشَدُّد أو انغلاق أو استئثارٍ برأيٍ أو بغيره.
ولا أفشي أَمرًا إن قلتُ إن طبيعتي في العمق جَعَلَتْني غريزيًّا أكثر ميلًا إلى الاعتدال والوسطية في الفكر والممارسة، وذلك حتى قبل أن أعرف معنى الوسطية السياسية في علاقتها بجوهر الفكرة الديموقراطية أو بنهج الواقعية السياسية.
ولا أعرف هل يعود ذلك إلى تربيتي وقد كبَرْتُ تحت النظراتِ الحصيفةِ لوالدةٍ بسيطة رائعةٍ لم تلْتَفِتْ عني بعينَيْها أبدًا طوال حياتها إِلى أَن فَقَدْتُها رحمها لله في غمرة هذه الولاية بالذات، وكانت في ذهني آنذاك عبارة تُنْسَبُ إِلى الإمام مالك رَضيَ للَّهُ عنه: «يظَلُّ الرَّجُلُ طفْلًا حتى تموت أُمُّهُ، فإذا ماتت كَبَرَ فجأةً» ! كما لا أعرف أيضًا هل يعود هذا الاعتدال إِلى تراكم خبرات التدبير والتسيير العمومي أم يعود إلى التجربة الفكرية، خصوصًا منها الاقتصادية والاجتماعية التي تساعد على تنسيب الوقائع والحقائق والمرجعيات، إِذْ بقدر ما نُعَمّق قراءاتنا وخبراتنا بالواقع الملموس، بمعطياته وأرقامه المادية، بقدر ما ندرك أَنَّ للحقول والأَفكار والخيارات حدودًا على الدوام.
طبعًا، إن نكرانَ الذات أو الانخراط في العمل الجماعي بِحِسٍّ جماعي، بوعي جماعي وبإرادة جماعية، لا يمكنه أن يلغيَ الاجتهاد الفردي وقدرة الواحد منا على استيلادِ الأفكار واقتراح بعض المبادرات والخطوات والقرارات. ومن مميزات التدبير المؤسساتي اليَقِظ المسؤول القدرةُ على الإِنصات للآخرين، والتَّمثُّلُ الهادئ السَّلِس لأفكارهم الشخصية ورغبتهم في البَذْلِ والعطاء. ومن ثَمَّ التَّدرُّج من الفكرة إِلى الحوار إلى الإنضاج من حيث علاقَةُ هذه الفكرة بوظائف ومهام المؤسسة التشريعية، وبالسيَّاق وبأسئلة المجتمع وتوقُّعَاته، ومدى إمكانيات نَقْلِها من مستوى النظر إلى مستوى الأَجرأة والتفعيل. وكل ما لا يتم إِنضاجه في الأَذهان وفي الحوار، يتم تَأْجيلُه إِلى أن ينضج أكثر، وعندما يبدو ذلك متعثرًا أو غير ممكن، نَتَخلَّى عن الفكرة ببساطة. وعمومًا، فقد تعلمتُ أنْ لا أحَدَ بإِمكانه أن يقطع الطريق عن فكرة نضجت وآنَ أَوَانُها !
من المؤكد أن العمل البرلماني، العمل داخل مجلس النواب تحديدًا، خلال هذه السنوات الأربع ونيف، شَكَّلَ مختبرًا حقيقيًّا لِحِسِّ المسؤولية ولأخلاق المعرفة، فالأفكار تُولَد وتُتَجدَّد باستمرار، وتتضافر مع الحاجة المتواصلة إلى الصبر والتَّحمل، وإِلى الحزم في وقْتِهِ والمرونة في غالب الأوقات، فالمشروع في آخر المطاف لم يكن شخصيًّا ولا ينبغي أن يكون، وإنما هو مشروع وطني أكبر من كُلِّ تطلعٍ سياسي فردي، مشروع يخدم تطلعات المجتمع أولًا وأخيرًا، ويسهم في إِرساء أسس البِنَاء الديموقراطي وتقوية القاعدة الصلبة للدولة المَدَنِيَّة الحديثة في المغرب.
والمؤكد أن المرء يحتار عندما يريد أن يؤرخ لجزء من مساره السياسي أو يُدَوِّن تفاصيل عبوره لموقع مُعَيَّن، ففضلًا عن أن المراحل ترتبط بما قَبْلها وبما بعدَها، فما كُلُّ شيء قابِلٌ للتَّدْوين، وما كلُّ شيء قابلٌ للحديث بل إن الكثير من التفاصيل الصُّغْرى تختفي تلقائيًا تحت ظلال الملفات والمواضيع الكبرى.
وحتى حين نتحدث عن سنوات معيَّنة من العمل والحضور والعطاء، فنَتَذَكَّر مختلفَ القضايا والانشغالات، نَنْسى سريعًا الكثير مما قلناه، وما تبادلناه من أفكار، وما أبديناه من ملاحظات أو تحفظات أو اعتراضات جزئية أو اختلافات في بلورة بعض المواقف أو بعض الاقتناعات داخل اجتماعاتنا وندواتنا وحواراتنا مع أنها أخذت منا جهدًا ووقتًا بدون شك وأثَثَتْ الأعوامَ والأَشْهُرَ والأيام التي عشناها مع بعضنا البعض من أجل الوصول إِلى أهدافنا الوطنية وتشييد المشترك الجماعي الذي آمنَّا به وتحملنا من أجله المسؤولية.
وما لا أنساه، ما لم أنْسَه مطلقًا، هو أنني كنتُ هناك على رأس مجلس النواب لأنني أنْتُخِبْتُ في دائرة انتخابية في مسقط رأسي بأبي الجعد (إِقليم خريبكة)، وعَلَيَّ أن أصون هذه العلاقة مع أولئك اللَّائي والذين منحوني أصواتهم الانتخابية وطوقوني بثقتهم وآمالهم واستغاثاتهم في الحواضر الصغيرة وفي القرى والمداشر والدواوير مثلما عَلَيَّ أن أكون ممثلًا لكافة المواطنات والمواطنين، لا بسبب المسؤولية على رأس المجلس، وإنما أيضًا وأساسًا بحكم المفهوم السليم للنائب البرلماني بوصفه نائبًا للأمة ككل. ولذا يظل هذا المعطى حاضرًا في الذهن، أي كيف ينبغي إيجاد الصيغة المعقولة لجدلية النائب عن الدائرة الانتخابية والنائب عن الأمة.
مازلتُ أَذْكُرُ حتى الآن أن حزبي، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، رشَّحَني لأول مرة في أبي الجعد خلال الانتخابات التشريعية في يونيو 1977، وسنِّي آنذاك اثنين وثلاثين سنة. كان ذلك الاستحقاق أَوَّلَ اختبار لي في مجابهة التحديات المطروحة على الجيل الجديد من المناضلين في خوض المعارك من أجل الديموقراطية التمثيلية، وكان بالقوة وبالفعل استحقاقًا صعبًا جدًّا بالنَّظر إلى ما كان يميز تلك المرحلة من مراحل ما كان يسمَّى بسنوات الرصاص. كان أخونا المرحوم عبد الرحيم بوعبيد وقيادة الاتحاد قَرَّرا خوض المعركة بإِحساس مَنْ لا تهمه المقاعد بقدر ما يَهمُّه التَّمَاسُّ المباشر مع الجماهير الشعبية ورفع الخوف عنها. وكنا نعرف موقف الإدارة مسبقًا، ولم نتردد في النزول إِلى الساحة. ولولا إِرادة التزوير آنذاك لَكُنْتُ سأكون أصغر برلماني في المغرب وقْتَها !
وعاد الحزب إلى ترشيحي من جديد في الانتخابات التشريعية سنة 1984، واقترح عليَّ الإخوان أن أتقدم هذه المرة في دائرة يعقوب المنصور بالرباط إِلى جانب الأخ محمد الساسي، إِذ كان يعقوب المنصور ينقسم إلى دائرتين، يعقوب المنصور «العُلْوي» ويعقوب المنصور «السفلي»، ولم تكن التجربة أَيضًا سهلة في العاصمة. كان الوضع العام في البلاد، سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا مكهربًا بل انفجرت الأوضاع في بعض المدن. كما كان الاتحاد الاشتراكي يجتاز ظرفًا تنظيميًّا صعبًا. وكان شعار الأخ عبد الرحيم بوعبيد لايزال يلقي بظلاله على خطابنا الانتخابي، فالمقاعد لا تهمنا بل كان يهمنا أن نتواصل مع جماهير شعبنا بالأَساس والعمل على فَكّ الطوق عنها، والسعي إلى تغيير الذهنيات وإِشاعة ثقافة سياسية جديدة جوهرها ديموقراطي وقاعدتها الفكرية خيارنا الاشتراكي. ولكن منذ انتخابات 1993 التشريعية، تغيرت استراتيجية حزبنا، وأصبح الكاتب الأول الجديد للاتحاد الاشتراكي الأخ عبد الرحمن اليوسفي يُلحّ ويكرِّرُ بأن المقاعد تَهمُّنا.
وهكذا، رُشِّحتُ من جديد في دائرة أبي الجعد، وتَوفَّقتُ هذه المرة. ومنذئذ، تكررت تَرشُّحَاتي في مسقط رأسي: انتخابات 1993-1997، وانتخابات 1997-2002، وانتخابات 2002-2007، و2007-2011، ثم 2011-2016، وبعدها 2016-2021.
كما تكرر الفوز بالدائرة الانتخابية، وأصبح نشاطي البرلماني يخترق حياتي اليومية، وأصبح مقر البرلمان في الرباط أحد أمكنة حياتي لا بمعنى «الاحتراف» السياسي المبتذل، وإنما بوصفه مؤسسةً سياسيةً ودستوريةً وفضاءً رمزيًّا للتنمية السياسية ولإنتاج القيم والتعبيرات الديموقراطية، إطارًا وطنيًّا لخدمة المغرب ككل، وضمنه خدمة ما كنتُ أسميه دائمًا بـ «وطني الصغير»، دائرتي الانتخابية. بعد ذلك بحوالي رُبُع قرن من الممارسة البرلمانية، والمسؤوليات الوطنية في المجلس الوطني للشباب والمستقبل (1990-2000) وعلى رأس بعض القطاعات الحكومية: وزارة الفلاحة والتنمية القروية والصيد البحري (1998-2000)، والتربية الوطنية (2002-2004)، ثم وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي (2004-2007) في إِثْر تعديل حكومي…، وجدتُ نَفْسي في مَهَمَّة جديدة، وذلك في إِثْرِ انتخابي رئيسًا لمجلس النواب في المملكة المغربية بإِرادةٍ توافقيةٍ وطنية تضافرت فيها الجهود الخيِّرة وارتقى فيها الوعي بالمصلحة العليا للبلاد. وما كان هذا التَّوافُق الذي جرى بين عدة مكونات سياسية، لِيَتَحَقَّقَ لو لَمْ يستند إلى ثقافةٍ من التعاقد السياسي والدستوري والأخلاقي قائمةٍ على أَساس الشراكة السياسية. وفي الحقيقة – وليس هذا بالسِّرِّ الذي يخْشَى المَرْءُ إِفْشَاءَهُ – فالتوافقُ العميق، أَيُّ توافقٍ سياسي وطني، إِنَّما يتم برعاية وقيادة جلالة الملك وحرص جلالته على الإِشراك لا على الإِقصاء، وعلى الاعتدال لا على الغُلُوِّ، على الانفتاح لا الانغلاق. وليس سِرًّا أيضًا، وهذا ما تَعَلَّمنَاهُ في حقلنا السياسي بالمغرب ومن تاريخنا المعاصر، أن المؤسسة الملكية تكون دائمًا أَحْرَصَ على توفير المناخات والسياقات الإِيجابية، وعلى توحيد الإِرادات المتنافرة حول حدٍّ أدنى من الأَفكار والبرامج والخطط، وتقريب التوجهات، وتجميع الفاعلين السياسيين حول كلمة سواء بينهم وبين الوطن ومصالحه العليا.
وهناك مَن ينْسَى أحيانًا، في غمرةِ بعضِ السِّجَالات حول هذا الموضوع تحديدًا، أَن حكومة التناوب التوافُقي (1998-2002) برئاسة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي رحمه الله تحققت بفعل توافق مع المؤسسة الملكية وبرعايتها في ما يخص إِشراك الاتحاد الاشتراكي مع مكونات سياسية أخرى متباعدة عن بعضها البعض من حيث برامجها ومقترحاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ومعروف أن تجربتنا في حكومة التناوب كانت قد تأسست على مشروعيَّتَيْن: ما تُمثِّلُه بالأساس المؤسسة الملكية من مشروعيات دينية وتاريخية ودستورية ورمزية، وما وفَّرهُ جلالة الملك الراحل الحسن الثاني رحمه لله من ضمانات شخصية؛ وكذا مشروعية شعبية لها خلفية تاريخية بالنظر إلى المكانة الاعتبارية لليوسفي في تاريخنا الوطني (الحركة الوطنية، حركة المقاومة المسلحة ضد الاستعمار، والحركة النقابية في بعدها الوطني…)، وكذا ما كانت تمثله الحركة الاتحادية باعتبارها امتدادًا واستمرارًا لحركة التحرير الشعبية، فضلًا عن مشروعية ديمقراطية في إِثر النتائج الانتخابية للاستحقاق التشريعي لسنة 1997، وما وفره أخونا اليوسفي من جرأة سياسية ما كان ليقوم بها أَحدٌ آخر على أَساسٍ تَوَافُقي، ووطنيةٍ منفتحةٍ على المستقبل، واستعادة للثقة بين الفاعلين السياسيين الكبار، وذلك رغم حذر السي عبد الرحمن الذي لمسناه بوضوح حين سئل آنذاك عن «الضمانات»، فأجاب بأن السياسة ليست فيها شركة تأمين!
ومضى في جرأته، وفي أفق من كان يراهن على التاريخ لا على حسابات سياسية وحزبية قصيرة النظر. مضى وكنا معه، إلى جانبه ومن خلفه في تلك الخطوة الوثابة التي زرعت الكثير من حقول الأمل والثقة في المستقبل بالرغم من كلِّ المخاوف.


الكاتب : الحبيب المالكي

  

بتاريخ : 07/08/2021