الحبيب المالكي: ديموقراطية التَّوافُق -05- سنوات رئاسة مجلس النواب في المغرب

بالحرصِ نَفْسِه على هذا التقليد الشخصي، أحاول أن أقف الموقفَ نَفْسَه تُجاهَ مَهَامّي على رَأْسِ مجلس النواب في المملكة المغربية خلال الولاية التَّشْريعية العاشرة (2021-2016).
وهذه المرة، حاولتُ أَنْ أُشْرِكَ معي عددًا من أطر المجلس في تجميع المعطيات وفتح ما يشبه ورشةً من الحوار الجماعي حول عملنا وأدائنا ونوعية النتائج التي حققناها. وقد وجدتُ من الأصدقاء والزملاء في مجلس النواب روحًا سمحة من الإنصات والتفاعل، إِذْ أدرك الجميع معنى هذا التقليد، وبالخصوص أدركوا أَن ذلك من أجل الإِسهام في لَمْلَمَةِ عناصر ذاكرةٍ مشتركة وترصيد التجربة التي كانت جماعيةً بامتياز من أجل المزيد من فهم واقعنا السياسي في المغرب وتأمل سيرورة نضالنا الديموقراطي في أحد أهم أمكنة الممارسة الديموقراطية.

السياق والخطوات الأولى (3)

كيف نجعل من فكرة الديمقراطية ثقافة دولة ومجتمع؟

لن أحتاج هُنَا إِلى التذكير بالدور التاريخي البارز لحكومة التناوب التعاقدي في إِنقاذ المغرب من أزمة عميقة خانقة كانت قد هددته في هياكله السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وفي توازناته واستقراره.
كما نَهَضَتْ بدور هائل في تحقيق لحظة انتقال سَلِسَة رغم صعوبة الظروف آنذاك، من سياقات غامضة لا تخلو من تعقيدات ومصادر تهديد وتجاوزات وانعدام للثقة والتوافق والحوار المُنْتِج إِلى سياق جديد وفي الشروط الضرورية لتأهيل الساحة الوطنية لتحول يستلزم احترام قواعد اللعب السياسي والممارسة الديموقراطية.
ولا ينبغي في هذا الإطار أَن نَسْهُوَّ عن الدور التمهيدي لتشكيل حكومة التناوب سنة 1998 الذي أنجزه مجلسُ النواب، وذلك حين التَفَّتِ المكوناتُ السياسية الوطنية الأَساسية آنذاك حول مُرَشَّحِ الاتحادِ الاشتراكي للقوات الشعبية الأخ الأستاذ عبد الواحد الراضي بوصفه مرشَّحًا عن الكتلة الديموقراطية، وبالتالي كمرشح وحيد يمثل المعارضة آنذاك، لكي يَشْغَلَ منصبَ رئيسٍ لمجلس النواب. بمعنى أن المجلس حين حقَّقَ تناوبًا برلمانيًّا، وفَّر على سِّي عبد الرحمن عَنَاءَ البحثِ عن أغلبيةٍ لتشكيل حكومته لما دَعَاهُ مَلِكُ البلاد وكَلَّفَهُ بتشكيل حكومة جديدة.
لا أريد بالطبع من خلال إِلْحَاحِي على قيمةِ التَّوافُق، والتي سأعود إِليها لاحقًا في هذا الكتاب لأَقِفَ على رهاناتها وبُعْدِها المرجعي، أَن أُقَدِّسَ التوافق لأن من شأن ذلك أن يجعل من هذه القيمة قيمةً جامدةً وغير منتجة، في حين أن التَّوافُق في جوهره ليس أكثر من شَكْلٍ من أَشكالِ الثقةِ المتبادلة بين الفاعلين، وليس أكثر من منهجية لِترتيب وتدبير الاختلافات. وبالتالي التصرف على ضَوْءِ دروسِ التجربة التاريخية وما آلَتْ إِليه التوترات والصراعات والأزمات المتعددة التي عرفها المغرب خلال عدة عقود. والواقع أَن أول برلمان في المغرب (المجلس الاستشاري الوطني، 1956-1959) الذي أُسْنِدَت رئاستُه إلى المرحوم المهدي بن بركة (1920-1965) ما كان ليتحقَّقَ، في غياب شروطٍ ملائمةٍ آنذاك لإِجراءِ استحقاقٍ انتخابي في فجر الاستقلال، لولا التوافق الوطني بين المؤسسة الملكية على عهد السلطان المجاهد محمد بن يوسف طيَّبَ الله ثَرَاه والمكونات السياسية والاجتماعية والدينية الوطنية الحية آنذاك. كما أن الالتفاف حول الأستاذ عبد الواحد الراضي سنة 1998 رئيسًا لمجلس النواب كان نتيجة مباشرة لثقافة التوافق بين المؤسسة الملكية على عهد الملك الراحل المرحوم الحسن الثاني ومكونات المعارضة الديموقراطية والوطنية التي كانت قد التحمت داخل مجلس النواب وفي ساحة العمل النقابي قبل أن تنضج الشروط لتحالفها السياسي والحزبي الذي تُوِّجَ بتشكيلِ الكتلةِ الديموقراطية سنة 1992 وبالدينامية التي أطلقتها كما نعرف.
وإذن، فالتوافق كان دائمًا مرتكزًا وطنيًّا لإِنجاز تحولات سياسية كبرى. وكم من تحولات أخفقت، وكم من مبادرات تَعَطلت في مهدها في تاريخ مغربنا المعاصر، فقط لعدم تَوفُّر شروط ناضجة للتوافق بين الدولة والمجتمع أو بين الفاعلين الحزبيين والنقابيين، خصوصًا في المراحل الصعبة التي لم يكن هناك فضاء ديموقراطي يوفر المناخ الملائم للثقة والتقارب والحوار، ولحكَامَة سياسية وطنية جادة.
الواقع أن البناء الديموقراطي بصفة عامة لا يتم دفعةً واحدة، وإِنما هو مسار طويل من التراكم والاستِنْبَات والحوار والإِقناع والاقتناع والتوافق. وبالتالي، فإن طريق الديموقراطية محفوفٌ دائمًا بالخصومات (Les adversités) وبالمخاطر المختلفة، خصوصًا وأن لهذا الخِيار حُدُودَهُ أَيضًا، ويحدث أن تظهر فيه بعض العيوب أو يعاني من بعض الأَعطاب، لكنها على العموم تبقى قابلةً للتصحيح والاستدراك من داخل النظام الديموقراطي نفسه وبوسائل وآليات النظام نَفْسِه.
وكما كان يقول ويُردِّدُ المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، فإن الديموقراطية ليست «وصفة سحرية» لقيام نظام سياسي محكوم بالقانون وضامن للحقوق الفردية والجماعية وفق المبادئ الإغريقية القديمة، هكذا دفعةً واحدةً، وإنما الأساس هو كيف نشتغل في مختلف المراحل والظروف ونقتحم كُلَّ الفضاءات لنجعل من فكرة الديموقراطية ثقافةَ دولةٍ وثقافةَ مجتمع، وتصبح «مزروعة في الدم»، راسخةً في الذهنيات وفي تصرفات الجميع، وتلزم الأفراد والجماعات بأخلاق المسؤولية لا بضوابط وإلزامات القانون فحسب.
طبعًا القانون مهم وضروري ومن شروطِ وضماناتِ الحياةِ الديموقراطية، لكن لابد من آليات ومؤسسات لإنتاج القوانين وصيانتها وتنفيذها، أي لابد من أمكنة الديموقراطية لبناء وترسيخ وتعميق وتعميم ثقافة الديموقراطية، وهي ثقافة تستمد روحها من المنجز المدني الإنساني وتنفتح في الآنِ نَفْسِهِ على الفكر المغربي الذي يستمد جذوره من أصوله التاريخية والاجتماعية والثقافية ومن المرجعية الوطنية المغربية.
هكذا تعلمـتُ شخصيًّا، في ذلك المسار النضالي، معنى تلك الجدلية الحية بين البعد الديموقراطي والعمق الوطني، ومن دور قادتنا الوطنيين البارز في العبور التاريخي من مراحل الخيارات الثورية إلى مراحل النضال الديموقراطي أو ما سمَّاهُ الاتحاديون والاتحاديات باستراتيجية النضال الديموقراطي في مؤتمرهم الوطني الاستثنائي في يناير 1975، وهو محطة مثلت بالنسبة إليَّ مثلما للكثيرين نقطةَ تحوُّلٍ لم تكن فقط تنظيمية وسياسية بل فكرية أيضًا وبالأساس. كما فتحت لي ولغيري أفقًا إِيديولوجيًّا مُؤَطِّرًا للفعل السياسي والاجتماعي والثقافي طويلِ النَّفَس. وظنِّي أنَّنا، إلى جانب المرحوم عبد الرحيم بوعبيد ومن كان معه من قادة الاتحاد وأركانه الفكرية، أدركنا في مرحلةٍ مُعَيَّنَة أن على الحزب أن يُعيدَ بناءَ رؤيتِهِ الاستراتيجية وموقعه الفكري والسوسيو-ثقافي، وأن يقوم بترتيب أولويات مهامه الوطنية وفي مقدمتها تطبيع الحياة السياسية، وتجاوز كل نُزوع إلى القطيعة، والمساهمة في إِقامة مؤسسات دستورية ذات مصداقية، والتمسك بقواعد الممارسة الديموقراطية رغم المساس المضطرد بنزاهة الانتخابات وشفافيتها الذي ظل سائدًا لفترات طويلة.
كان بوعبيد رحمه الله، والذي أَضَعُ دائمًا صورةً شخصية له في غُرفَةِ مكتبتي بالبيت، قائدًا وطنيًّا مُتَبصِّرًا ومتمسكًا إِلى حَدِّ الوَلَع بعبارته الأَثيرة «إِرادة التغيير»، أي أن نغَيِّر الواقع السياسي بآليات السياسة وبغيرها من طرائق التَّحويل الثقافي والاجتماعي، ومنها تغييرِ الذهنيات، تغيير أنماط التفكير السائدة، تغيير الخطاب، تغيير الثقافة السياسية والاقتصادية والاجتماعية…. وقد كان لا يبالي بِمَنْ يتهجمون على شخصه أو أَفكاره أو يتهمونه بكونه «مُغَفَّلًا» لا يستخلص الدروس والعِبَر من التجربة، ومن الماضي، ويواجهونه بتزوير الانتخابات الذي لم يكن يتوقف منذ الستينيات ! فكان يعطي المثال تلو المثال في الصمود والوعي الذاتي والثبات على فكرته المركزية في العمل الصادق المتواصل لإنعاش الفكرة الديموقراطية، والعدالة الاقتصادية والاجتماعية، وثقافة حقوق الإنسان، وأولوية القوانين الوَضْعِية، وما إِلى ذلك من طروحاتٍ أساسية كانت قاعدتُها ديموقراطيةً وعمقُها وطنيًّا.
طبعًا، كان الفكر السياسي المعاصر يرشدنا إلى قيمة النظرية الديموقراطية، وكنا نتابع ما يجري في العالم من تحولات مبكرة وتوجهات ديموقراطية كانت وتيرتها تتسارع ومساحاتها تتسع وأنظمتها تتزايد، لكن خصوصية مرجعيتنا الديموقراطية الوطنية كانت واضحةً، وكنا لا نكاد نقيس إيقاع الصراع وطبيعة المحطَّات إِلًّا بالتِّرمُومِتْر الوطني الخاص الذي كان يَمْتَلِكُه جيل عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمن اليوسفي وأمثالِهما، وذلك بحكم التجربة التاريخية والوطنية الوَضَّاءة ونوعية الخطاب والرؤية النَفَّاذة لدى هذا الجيل من الرُّوَاد الذين مدُّوا الجسور بين التاريخ والمستقبل. وبالتالي كانوا يُوَجِّهون نظرتَنا وفكرنا ووجداننا صَوْبَ حاجة المغرب إِلى نظام سياسي ديموقراطي قائم على دولة الحق والمؤسسات، وسُمُوّ المنظومة الدستورية، والطابع التَّعدُّدي الحقيقي سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا ولغويًّا، واستقلال القضاء، وفصل السلط، وبالخصوص «احترام الإرادة الشعبية» كما ظل يُردِّدُ عبد الرحيم بوعبيد رحمه لله.
من هناك، من تلك السيرورة إِذن التي بَدَأَها المرحوم المهدي بن بركة في السنوات الثلاث الأولى من عهد الاستقلال وطوَّرها السي عبد الرحيم والسي عبد الرحمن، ومن ذلك النَّبْعِ المرجعي الدَّافِق وصلتُ إِلى هذا المكان الديموقراطي بامتياز، إلى هذه المسؤولية الوطنية الجسيمة، وما كان ذلك ليكون ممكنًا على الإطلاق لولا ثقافةُ التَّوافُقِ الوطني بين المكونات السياسية والإرادة الجماعية المتوافقة مع إِرادةٍ ملكيةٍ ساميةٍ مؤثرة وحاسمة.


الكاتب : الحبيب المالكي

  

بتاريخ : 09/08/2021