بعد «الباباوان»… عودة واجبة إلى ناني موريتي؟

 

فارق كبير بين «لدينا بابا» (2011) لناني موريتي وبين «الباباوان» لفرناندو ميريليس (2019). ليس حدثًا كبيرًا أن يكون هناك اختلاف، وأن يكون الاختلاف كبيرًا أحيانًا. هذه هي السينما في النهاية. لكن، وضمن الإطار السينمائي، يُتوقع أن يعالج الموضوع الاشكالي بطريقة إشكالية. لعدة أسباب، يمكن الافتراض أن معالجة موريتي كانت على قدر التوقع، بينما كانت النظرة إلى الكنيسة في عمل ميريليس نظرة «مسالمة»، وتفترض أن قدرًا كافيًا من العرض، يعفي العمل من الإيغال في نقد أكثر جدية.
نتحدث هنا، بطبيعة الحال، عن سيرة البابا الحالي، فرنسيس، الذي يعد للمناسبة، البابا اليسوعي الأول، علمًا أن هذا لا يمكن أن يكون تفصيلًا. صحيح أن للبابا الحالي شخصية فريدة ومتفرّدة، لكن ثمة مناخ «يسوعي» عام، أسهم في صقل هذه الشخصية، وفي ترجيح خيارات الانفتاح على قرارتها.
لا يقيم شريط ميريليس وزنًا كافيًا لهذه الاعتبارات. على عكس منه، تحضر روما، المدينة الأبدية والتاريخية، كلاعب فاعل ومؤثر في خيارات البابا، عندما تناول موريتي سيرته. عمومًا، وبمشاهدة العملين، يمكن الحديث عن ثلاث فروقات أساسية بين الشريطين.
الفارق الأول، في طبيعة العملين. في الإخراج، وفي الجانب التقني. رغم اتكال موريتي في أغلب أعماله على حبكة متينة وفكرة واضحة يرغب بنفاذها إلى المشارك كعصارة عمل متكامل، فهو وبخلاف عمالقة السينما الإيطالية، لا يبالغ في الجانب البصري على حساب السينوغرافيا، بل يتقاطع الجانبان تمامًا.
في «لدينا بابا»، هناك تجهيز «مسرحي» للفاتيكان من الداخل، واهتمام بالأزياء، وبجلسة الانتخاب، من بين تفاصيل أخرى كثيرة. يحضر هذا في «الباباوان»، لكن تطغى الأحاديث الشخصية بين الرجلين على أجزاء كبيرة من الفيلم، ما يمنح المُشاهد فرصة أقل للاستنتاج والتورط بخلاصات شخصية. من دون أن يلغي ذلك أن لمخرج «الباباوان» بصمة بصرية واضحة، وأن أداء الممثلين كان لافتًا.
نقطة تفوق موريتي الرهيبة تبقى في «نبوءة» شريطه، الذي ظهر إلى العلن في 2011، وتحدث عن استقالة البابا، التي حدثت في 2013. بعد كل شيء، جاء «الباباوان» ليؤكد أن استقالة البابا (بندكتوس السادس عشر) حدثت بسبب تحولات عميقة في الكنيسة، واستند إلى قراءة أقرب إلى الواقع من قراءة موريتي لحياة البابا عمومًا، وليس حياة هذا البابا أو ذاك بالتحديد. ولكن، من قال إن ما أشار إليه موريتي عن «ملل» البابا من الضوء وشعوره بعدم القدرة على تحمل مسؤولية القرارات المصيرية، لا يصب في ذات الاتجاه، مع فارق «النبوءة» والشجاعة بالحديث عن «استقالة» رجل من منصب لا أحد يستقيل منه عادةً؟
لا يعني هذا بالضرورة أن «الباباوان» هو عمل ترويجي. فهو يمرّ بسلبية علي حياة فرنسيس في الأرجنتين، وإن كان سرعان ما «يلّمعها» بالأحداث اللاحقة. بيد أن جنسية موريتي الإيطالية، وحضور روما في شخصيته، لعبت دورًا بلا شك في فهمه للفاتيكان من «الخارج»، على نقيض من الإفراط في تحليله من «الداخل». لطالما كان البابا إيطاليًا، من يوحنا بولس الأول (ألبينو لوكياني)، وقبله بولس السادس (جيوفاني باتيستا مونتيني) ويوحنا الثالث والعشرون، أي أنطونيو روناتشيللي الذي تم البدء بأعمال مجمع الفاتيكان الثاني في عصره. والمجمع الأخير ليس حدثًا عابرًا، بل كان تأسيسيًا في الكنيسة، وأدى إلى حدوث تحولات أساسية، لم تتغير إلى بوصول البابا البولندي يوحنا بولس الثاني، الذي بدأ تحولًا معكوسًا بالعودة إلى أفكار ما قبل مجمع الفاتيكان الثاني.
وإن كان الخلاف بين «الباباوين» حقيقيًا، فإن شخصية بندكتوس نفسه بحاجة إلى مزيد من الانصاف. فلا تكفي الإشارة إلى تشدده بالمقارنة مع فرنسيس لتكوين أفكار حاسمة ونهائية عنه، ذلك أنه رغم كل مواقفه المتصلبة يبقى صاحب اشتغالات عميقة في الفلسفة، تظهر أهميتها بوضوح تام في نقاشه الشهير مع يورغن هابرماس.
إلى ذلك، «الباباوان» من إنتاج نتفليكس وبرأي كثيرين هذا يقتضي ميلًا واضحًا إلى العوامل التشويقية في العمل، على حساب فلسفته بحد ذاتها. وإن كانت الفلسفة ليست واجبة في السينما، فإن السرد عندما يصير تقليديًا سيخسر العمل من فرادته. هذا بالضبط ما يميّز عمل موريتي: الفرادة، هذه الفرادة التي ميّزت أعماله دائمًا. الانطلاق من نظرية لم تكن متداولة أو موجودة، وهي في هذه الحالة، استقالة البابا.
أما شريط ميريليس فرغم جودة الإنتاج البصري، واستناد حبكه الرئيسية إلى معطيات مستقاة من الواقع، إلا أن المعالجة لم تخرج عن سياق المعروف، أي العلاقة بين الرجلين، واحتمالات تعاونهما أكثر من خلافهما.
اللافت أن الصحافة في إيطاليا بدأت تتحدث أخيرًا عن دور خفي للبابا المستقيل، وعن علاقة تجاذب بين الرجلين، ما يوحي بأن الحاجة إلى صورة البابا اليسوعي، كما ترد في البابوين، هي حاجة المؤسسة نفسها.
بالنسبة لموريتي، هذا كله كان حفرًا في المكان نفسه. ما فعله هو أنه نقل حفرياته إلى دائرة أوسع. أخرج البابا من الفاتيكان، بعدما صار بابا، وليس قبل ذلك. جعله يقابل سكان المدينة ويذهب إلى الطبيب ويتعرف إلى الحياة خارج أسوار الفاتيكان، كما لو أن هذه هي الحرية. في المقابل، تقتصر حرية بندكتوس السادس عشر في فيلم ميريليس على نقل ثقته إلى البابا فرنسيس، فيما تقتصر حرية الأخير على القبول. لكن العالم كله يدور داخل هذه الأسوار، وليس خارجها. ومثلما بدأ يوحنا بولس الثاني يعيد الكاثوليكية إلى جذورها، أعاد ميريليس البابا إلى داخل الأسوار، بعدما أخرجه ناني موريتي منها.


الكاتب : أحمد محسن

  

بتاريخ : 06/02/2021

أخبار مرتبطة

لا شك أن الفنانة كرسيت الشريفة، سوف تبقى شخصية غنية خصبة متعددة الجوانب، لأنها لم تكن فنانة اعتيادية أو مؤدية

تحتفي الدورة الثانية من “ربيع المسرح” التي ستقام في مدينة تارودانت ما بين 6 و11 ماي 2024، بالفنان عبد الرحيم

انتهت الإعلامية “فريال زياري” من تصوير حلقات برنامجها الاجتماعي “فيس تو فيس مع فريال”، وسيعرض قريبا على قناتي روتانا و

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *