حوارات في الدين والحداثة والعلمانية 9- الفيلسوف الفرنسي هنري كوربان (5/3)

 

تخليص الفلاسفة الشباب من «كهف» ما يسمى عادة «بالاستشراق»

 

ينزل هذا الحوار مع الفيلسوف والمستشرق الفرنسي هنري كوربان منزلة استثنائية في مجال المقارنة بين مارتن هايدغر وعدد من حكماء المسلمين كالسهروردي وملا صدرا وابن عربي. لقد تركزت الأسئلة والإجابات كما سيظهر لنا لاحقاً حول الوجود والموجود ومدارج الفهم المتعلقة بهما. ومثل هذا المبحث كان منذ اليونان ولما يزل، يهيمن على مشاغل الفلسفة من دون أن يفقد شيئاً من سحره وجاذبيته. الحوار الذي أجراه فيليب نيمو مع كوربان كان حواراً مباشراً عبر إذاعة فرنسا الثقافة Radio France – Culture. وقد تم تسجيله على مراحل بطلب من كوربان نفسه في يوليوز من العام 1976 ، أي قبل سنتين من وفاته في السابع من أكتوبر 1978. كان كوربان مجايلاً لهايدغر، وقد التقيا غير مرة وفي مناسبات مختلفة. وبهذا المعنى سوف يتبين لنا كيف أن تبادل المعارف والأفكار بين الرجلين أدى إلى إغناء كل منهما بعوالم إضافية في ميدان الفلسفة والإلهيات

 

 

– ماذا أيضاً وأيضاً حول هذه النقطة بالذات)الحضور والإحاطة)؟
– الاختلاف كله سيكون هنا حين سنطرح السؤال: أي حضور يستحضر الحضور الإنساني لنفسه بممارسة فعل الحضور؟ بعبارة أخرى: بأي كوكبة من الحضور يحيط «دا» (هنا) الدازاين نفسه بتكشُّفه لذاته؟ ولأي عوالم يتم الحضور بالوجود هنا؟ هل عليَّ الاقتصار على ظاهرة العالم الذي يحلله هايدغر في كتاب الوجود والزمن؟ أم عليَّ الشعور بحضوري والقبول به وتمديده إلى كل العوالم البَيْنِيّة، كما يكشفها لي ويوحي بها إليَّ الحضور الإشراقي لأهل العرفان المسلمين الإيرانين؟ إنني بإثاراتي لهذا السؤال، أردت توضيح الاختلاف الذي تحدثت عنه قبل قليل. فإذا كان هايدغر يعرِّفنا كيف نحلل «دا » الدازاين، وفعل الحضور، فهذا لا يعني أبداً، كما ترى، أن حدود الأفق الهايدغري سوف تفرض نفسها على فعل الحضور هذا. لذلك كنت أشرت سابقاً إلى اللحظة الحاسمة التي انصرفت فيها نحو مستويات تأويلية لم تتوقعها التحليلية الهايدغرية التي كانت آنذاك بين يدي. مع فعل الحضور نجدنا بصحبة التراتبات الدينية للأفلاطوني الجديد بروقليس، وللعرفان اليهودي، والعرفان الفلانتيني، فضلاً عن العرفان الإسماعيلي. فالمستقبل وبُعد المستقبل انطلاقاً من ذلك، هو ما يتقرر. فإذا كان فعل الحضور هو المستقبل الذي لا يكفُّ عن التشكُّل في الحاضر، والآتي الدائم الخاص بي، فما هو هذا المستقبل؟ لا يمكننا هنا مداورة عملية الاختيار، أي الاختيار الفلسفي المضمر في ما قبل المسعى الهرمينوطيقي. فالتأويليات لا تقوم سوى بالكشف عنه. فمن جهة، يصدح القول المأثور والمؤثر للتحليلية الهايدغرية: الوجود من أجل الموت. ومن جهة ثانية نحن مَدعوّون بقوة إلى حرية في ما وراء الموت. لنحافظ على كلمة هايدغر Entschlossenheit أي القرار الصارم، وهو ما يعبر عنه اليوم بالقرار بلا رجعة. إذ أن الأمر يتعلق بإدراك أن هذا القرار لم يكن حركة تراجع أمام الموت، وبالتالي ليس عجزاً عن أن يكون المرء حراً من أجل ما وراء الموت، ثم أن يكون حاضرا للموت ومن أجل ما وراء الموت. أخشى ما أخشاه بالفعل أن تخفق الإنسانية في أيامنا هذه أمام الحرية من أجل ما وراء الموت. لقد راكمنا بالكثير من الذكاء المعرفي في كل المعارف والعلوم المتاحة: تحليل نفسي، وعلم اجتماع، ومادية تاريخية، ولسانيات، وتاريخانية، إلخ. وكل شيء تم استحضاره لحجبنا عن كل نظر وكل دلالة في الماوراء. والبشرية المتطورة بالغ التطور، في منتهى مئات الآلاف من السنين، خصوصاً تلك التي يتصورها فرانز فرفيل في روايته «نجم الذين لم يولدوا »، حتى هذه الإنسانية في ما عدا المؤهلين لذلك دائماً وهم «حكماء الزمان» لا تكف عن السقوط باعتبارها إنسانية بالغة الوهن والشيخوخة. هنالك في آخر المطاف المعنى الميتافيزيقي لكلمة «غرب »: الانحطاط والغروب، وهو المعنى الذي أثبته السهروردي في قصته المؤثرة والقصيرة «الغربة الغربية ». سوف أصرح
يوماً ما كيف أن قصة «الغربة الغربية» هذه كانت بالضبط اللحظة الحاسمة الذي رميت فيها جانباً بثقل التناهي الذي كانت تنوء تحته السماء المكفهرة للحرية الهايدغرية. وكان عليَّ أن أدرك أنه تحت هذه السماء المعتمة، كان «دا » الدازاين جزيرة صغيرة ضالةَّ، أي جزيرة «الغربة الغربية».
يهُدِّئ الناس أنفسهم دائما بالقول: «الموت جزء من الحياة». وهذا أمر غير صحيح، إلا إذا نحن فهمنا الحياة في معناها البيولوجي. بيد أن الحياة البيولوجية بنفسها مشتقة من حياة أخرى هي مصدرها وهي مستقلة عنها هي الحياة الجوهرية. وطالما ظل القرار الصارم «من أجل أن يكون المرء حرّاً من أجل الموت » فإن الموت سيكون عبارة عن انغلاق وسياج لا مخرجاً، وآنذاك لن نخرج من هذا العالم أبداً. وأن يكون المرء حرّاً من أجل ما بعد الحياة يعني
حدسه وجعله يأتي كمخرج وبوابة للخروج من هذا العالم باتجاه عوالم أخرى. بيد أن الأحياء هم الذين يخرجون من هذا العالم، لا الأموات.
أرجو أن أكون قد حققت النجاح على الرغم من كل شيء، خلال هذه اللحظات القصيرة. وأن أجعل القراء يعرفون كيف أن الفيلسوف نفسه يمكنه أن يكون في الآن نفسه أول مترجم فرنسي لهايدغر والمتأوّل للواقعة الدينية الإيرانية. أعني بذلك أن يفهموا كل ما استقيته من تأويليات هايدغر، وكيف ولماذا استخدمتها لأبلغ الغاية التي رسمتها لمسيرتي الفلسفية. وأعتقد أن ذلك كان تجربة بالغة الاختلاف عما مثَّلته التقاطعات الناجحة إلى هذا الحد أو ذاك، بين فلسفة هايدغر واللاَّهوت. علينا أن ندرك أيضاً كيف أنني بعد الأعوام الطويلة التي مكثت فيها في المشرق بعيداً عن أوروبا، كان من الصعب عليّ إعادة التواصل من جديد بشخص هايدغر وفلسفته.

– تحدثتَ قبل قليل عن هايدغر الذي قمت بترجمته سنة 1938 . وقد شدَّدتَ على التباين بين التأويليات الهايدغرية للدازاين والتأويليات التي كشف لك عنها الفلاسفة والمتصوفة الإيرانيون. هذا التباين تقيسه بالإحالة إلى كلمَتيْ «شرق» و «مشرقي»، كما يستعملهما هؤلاء الفلاسفة. لكن هل علينا أن نفهم أن مؤلفات هايدغر بعد 1938 شهدت توقفاً وثباتاً على المواقف المكتسبة إلى حدود ذلك الوقت. هل علينا أن نفهم أن القسم الثاني من مؤلفات هايدغر، بعد مرحلة كتاب «الوجود والزمن» و«ما هي الميتافيزيقا؟» لم تغير من هذا الانغلاق الذي أحسست به في القسم الأول من مؤلفاته؟
– حذار! لا أريد بأي حال أن أستعمل كلمة «انغلاق» إزاء فيلسوف عَلَّمنا أن نفتح العديد من أقفال الوجود. بيد أن السؤال الذي طرحته عليَّ يتعلق بحالتي أنا: ما الذي كانت تمثله مؤلفات وفكر هايدغر لباحث معروف ويُنظر إليه في الوقت نفسه باعتباره متأوّلاً لفلسفة إيرانية إسلامية ظلت أرضاً مجهولة في الغرب؟ لقد حاولت الإجابة حسب مستطاعي علي سؤالك، وطبعاً لم يكن للأمر أن يتعلق فقط بمؤلفات هايدغر كما كانت متوفرة لدينا سنة 1938 والتي كانت مؤلفات ذات وزن لا يستهان به آنذاك. والسؤال الذي تطرحه عليّ الآن يستهدف مجمل أعمال هايدغر. وللإجابة عنه يلزمنا دراسة مقارنة كاملة لهذا المجموع مع مجموع الفلسفة الإيرانية الإسلامية. قد تكون هذه المهمة ممكنة في يوم ما، لكني أعترف أنها تتجاوزني حالياً، فلا يزال أمامي الكثير مما أقوم به حيال الفلاسفة الإيرانيين، وعلى وجه الضبط لكي يغدو ذلك البحث الفلسفي المقارن ممكناً في يوم ما. وهذه المهمة سوف تكون أكثر لياقة من جهة بزملاء فلاسفة شباب، من الذين حافظوا على علاقة وطيدة مع الإنتاج الفلسفي اللاحق لهايدغر، وهو الاتصال الذي فقدتُه لا محالة خلال سنواتي المشرقية الطويلة،
ومن جهة ثانية بالفلاسفة الشباب، وسواهم الذين شجعتهم على الدراسة الشخصية للعربية والفارسية، حتى يستطيعوا الفعل في مجال الفلسفة والتصوف الإسلاميين عبر تخليصها من «كهف» ما يسمى عادة «بالاستشراق».
لقد كانت وفرة المؤلفات وامتدادها، كما تعلم، هائلة. فقد تم الإعلان عن نشر الأعمال الكاملة التي تتضمن نصوص المناظرات، في ما يناهز السبعين مجلداً. وهو ما يعادل منشورات فلاسفتنا المشرقيين. ثمة إذن، آفاق جميلة للعمل و «لإرادة الوجود»، وهي لامحدودة وتتطلب الفهم. ولقد آن الأوان لإعادة القول: أيها الفلاسفة، لتركبوا سفنكم للإبحار. وعلى كل حال، فأنا أعتقد أنه من المفيد القيام بشهادة في أفق الجواب عن سؤال يبدو أشبه باللغز. هذا السؤال يتعلق بمصير ما كان يعتبر الجزء الثاني من كتاب الوجود والزمن، وهو الجزء الذي من دونه لا يغدو الجزء الأول سوى قوس محروم من عماده، والذي كان سيكمل البنيان الأنطولوجي للتاريخية الأصلية الهايدغرية. ولقد رأيت بأم عيني مخطوط الجزء الثاني هذا على طاولة عمل هايدغر في يوليو 1936 بفرايبورغ. وهو كان موضوعاً في مشَدٍّ كبير. بل إن هايدغر تسلّ بوضعه بين يدي كي أقدر وزنه، وكان ذا وزن ثقيل. ما الذي حدث بعد ذلك لهذا المخطوط؟ ثمة إجابات متناقضة، ولا يمكنني أنا بنفسي أن أقدم إجابة عن ذلك.
أعود لسؤالك: فكما أنني لا يمكنني الحديث عن «انغلاق» في المسعى الفلسفي لهايدغر، كذلك لا تمكِّننا سعة مؤلفاته من الحديث عن توقف أو ثبات. والحقيقة أن المسألة لا تكمن هنا. فالمسألة تتعلق بمعرفة إذا ما كانت التحليلية الهايدغرية طيلة هذا الإنتاج التأليفي، والتي تم تشغيلها في مظاهر متعددة، قد حافظت ضمنيا على المسلمات المضمرة لفلسفة ورؤية للعالم قابلة لأن نقف عليها منذ البداية. فتحليل الوجود من أجل الموت باعتباره استباقَ إمكانية تكوين كلٍّ مكتمل عند الكائن الإنساني، هل هذا يفترض أم لا، من البداية، فلسفة للموت؟ أعتقد أن فكرة تناهٍ مفترض، لدى الفلاسفة «المشرقيين» الذين أتيت على ذكرهم، يرفض بالعكس القبول بتناهي وجود محكوم عليه أن يتراجع إلى الخلف. لهذا فضلت الحديث عن تأويليات للوجود الإنساني تتوقف مبكراً عند منتهىً هو في الحقيقة لا يقبل أبداً الاكتمال والانتهاء من غير قفز إلى الأمام يكون قفزا باتجاه الماوراء.


الكاتب : حاوره: فيليب نيمو

  

بتاريخ : 01/04/2023