دراسات قرآنية -13- فرضيات الكتاب حول (قصص القرآن) ونقدها الوحي ذاته تحوَّل إلى مفهوم

محاولة بلورة هذه المنهجية التأويلية هو ما لا يقوم به الحداثيون ولا الإسلاميون في رأي فضل مما يبرر طرحه؛ فالتحديثي الكلاسيكي -وفقًا له- لا يمتلك أيّ منهج يستحق هذا الاسم، بل يقتصر نشاطه على التعاطي الإجمالي مع مشكلات تبدو له وكأنها تتطلب حلًّا يفيد المجتمع الإسلامي، لكنها في حقيقتها مُستلهَمة من تجربة الغرب. أما الإسلاميون الأصوليون فإنهم «يتحدثون عن الأصل دون بلورة أيّ فكر أصيل من حوله، ولا يملك الإحيائي الجديد سوى أن يكون ردّ فعل على ما يأتي به الحداثي الكلاسيكي حول بعض القضايا الاجتماعية، دون أن يُتعب نفسه في البحث عن منهجية للتفسير القرآني تكون أمينة وموثوقة دراسيًّا وعقليًّا»؛ لذا فرغم الاشتغال الطويل على القرآن وعلى الحداثة وعلى الإشكالات التي يطرحها لقاؤهما أو صدامهما، إلا أن قضية المنهج تظلّ غائبة عن العقل الإسلامي -وفقًا لفضل- وفي هذا الغياب، ومن أجل ملء هذا الفراغ بمنهج متماسك يتجاوز التجاور الفكري والواقعي يؤسس فضل تأويليته للقرآن.

لعلّ كلّ هذا يوضح لنا تمامًا كيف أن تحليل الشعائر الإسلامية مساحة شديدة الأهمية لاكتشاف مرتكزات غابت تمامًا عن مقاربة فضل.
كذلك، فالشعائر الإسلامية في مجملها تكشف عن مركزية العدل كأساس للنظام الأخلاقي في هذا العالم الذي يبنيه الإسلام، كما يشير الحكيم الترمذي في (إثبات العلل) في حديثه عن علة فرض الأعمال: «وأما علة الأعمال، فإنهم لما عرفوه قلبًا، واعترفوا به نطقًا،… اقتضاهم الوفاء بها، وهي الأعمال، فلو لم يدْعُهم إلى عمل الأركان، وقدِموا عليه يوم القيامة ما كان لهم محلّ. ومنهم من اعترف باللسان وهو منافق، ومنهم من اعترف وعرف بقلبه، ثم زاغ ببعض الأهواء،… فمتى كان يظهر عند الجمع من الملائكة والرسل وجنود ربك يومئذ في تلك العرصة شأن أهل الثواب والعقاب؟! وكانوا لا يرون من ربهم شيئًا إلا أن يأمر بواحد إلى الجنة، وبواحد إلى النار،… ومتى كان يظهر قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، حين قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة: 30][xxv]، فالمسلم حين يمارس الشعائر يستعيد هذه الصورة لكامل السردية الدينية والتي يقع في قلبها (مشهدة) مفهوم العدل، ولعلّ هذا يتماشى كثيرًا مع حديث فضل عن الآخرة كانكشاف وجلاء للأسرار وظهور للحقيقة في العالم اليومي، عبر وصول التقوى لمرحلة «الوعي الآخري» الذي تحدثنا عنه بالأعلى، فالشعائر -وفقًا لهذا التعليل من الترمذي- حاسمة تمامًا في زيادة هذه الحساسية وتكوين «الوعي الآخري» الذي يعتبره فضل حاسمًا في الأخلاقية.
ونحن لا نرى أنّ الاقتصارَ على القرآن في محاولة الوصول لمرتكزات الإسلام، وإهمالَ مساحات الشعائر والسرد -أمرٌ مقتصر على فضل، بل ربما هو مسيطر على كلّ المقاربة الحداثية للقرآن، بل دعْنا نقول على (المقاربة الحديثة) لو استعرنا كلمات طه عبد الرحمن عن (آفة التجريد) ، لكن وبما أننا نتناول هنا القراءة الحداثية، فعلينا الإشارة للعلاقة بين رهانات ومنطلقات هذه القراءة وبين هذا الاقتصار على القرآن وإهمال المساحات الأخرى.
فكما قلنا سابقًا، فإن هذه القراءة تحاول تكريس الحداثة جوانيًّا عبر اقتحام آليات العقل المعرفي العربي والذي تُشكِّل أدوات مقاربة القرآن مركز التأسيس له، هذا بالطبع يجعل الاتجاه لمقاربة (القرآن) هو الأغلب، فضلًا عن أن سيطرة البُعد التقليصي والاختزالي على أغلب هذه المقاربات يجعلها تتبنى مقاربات منهجية لا تنظر للشعائر وللسرد كأجزاء رئيسة في البنية الدينية بل تنظر لها على اعتبارها ذات وظائف ضبطية ونفسانية وتخيلية/وهمية، وبالتالي لا تحاول التداخل معها لتحليلها.
وبالطبع فهناك أسباب ترجع -ربما- لكلّ خطاب من خطابات هؤلاء المفكرين على حِدَة؛ فمثلًا خطاب نصر وبسبب من مدخله الألسني ضيِّقِ الأفق قليلًا، والمتخشب بحيث لا يتحرك في مساحات أوسع، حتى تلك المساحات التي تفتحها الألسنيات ذاتها؛ يجعله مقتصرًا على التعامل مع القرآن كنصّ لغوي، وبالنسبة لفضل الرحمن فإن سيطرة همِّ البحث عن نظام تشريعي وأخلاقي انطلاقًا من تشخيص الإشكال بغياب الأخلاقية، ومن إيلاء الاهتمام الأكبر للنظام التربوي كان له أثره -كما قلنا- على النظر للإسلام كقرآن، وللقرآن كمنظومة نسقية.
* * *
الطريف أنّ (فضلًا) بمحاولته تأسيس أخلاقية معاصرة عبر استلهام النصّ القرآني كان يُصِرّ على كون التأسيس الذي قامت به الحداثة الأوروبية لمبادئ الحرية والمساواة هو تأسيس لا يمكن له الانغراس واقعيًّا بصورة كبيرة، حيث إن المنطق وحده لا يستطيع إشعال نار قناعة حيّة، بينما الوحي يستطيع هذا، إلا أن الوحي ذاته تحوَّل على يد فضل لمفهوم وتحولت فعاليته المنشودة لفعالية مفهومية ونسقية مُحتاجة لعُدّةٍ منهجية شديدة التركيب النظري من أجل الوصول لها! مما يجعلنا نتساءل أيّ مصير لهذه الأخلاقية المُتأسِّسة على هذه الرؤية؟! وأيّة قدرة لها على الانغراس في الواقع؟!


بتاريخ : 14/08/2020