دفاتر الطفولة : عبد الحميد بوحسين :خلف البوابة توجد النوستالجيا

تَفتحُ جَريدَة «الاتّحَاد الاِشترَاكي» عينَ القارِئ المَغربيِّ علَى فترَةٍ أسَاسية منْ عالَم الطُّفولة، يَسترجعُ فيهَا أَصحابُها لَحظاتِ عُبورهم الاسْتثنائِي مِن “عَالم الطَّبيعَة” إلَى “عَالم الثقَافَة”، عَبر اللِّقاء الأَوّل بعَالمِ الكُتّاب أوِ المَدرسَة وَمُروراً بمُختلَف الحكَاياتِ المُصاحبَةِ: الدَّهشَة الأُولَى فِي الفَصل؛ الاِنطبَاع الَّذي يُخلِّفه المُعلِّم أوِ «الفَقيه»؛ تَهجِّي الحُروفِ الأُولَى؛ شَغَب الطُّفولَةِ وَشقاوَتهَا وَأشكَال العِقَاب غَيرِ المُبرَّر أَو المُبرَّرِ بمَا لَا يُعقَل؛ انْتظَار الأمَّهاتِ أمَامَ بابِ المَدرسَة؛ زَمَن الرِّيشَة والدَّواة وَالقصَص الَّتي تسْتَتبِعُ لَطخَات الحِبْرِ في الأصَابعِ وعَلى الدَّفاترِ وَالمَلابسِ؛ مُقرَّرات الرَّاحلِ بُوكمَاخ الشَّهيرَة، وَغَيرِهَا منَ التَّفاصيل الَّتي كانتِ الْبدَاياتِ الأُولَى التِي قَادَتْهم إلَى مَا هُم عَليهِ اليَوم وَالَّتي بكلِّ تَأكيدٍ، سَتتحكَّم، قليلاً أوْ كَثيراً، في مَا سَيكُونُونَه غَداً.

 

حين أفتح كتابا وأقرأ الكلمة الأولى، تعود بهجتي القديمة بالتعرف على الحروف للمرة الأولى إلى التجسد كطيف خفيف الحضور، خلف الوعي وخلف إحساسي العميق بالامتنان للمعاني التي تتفتح الآن أمام عيني. لكنها في روضة الأطفال الصغيرة تلك، حين رأيت الكلمات الأولى كنقوش بيضاء فوق سواد السبورة، تحولت إلى سائح حائر أمام لوح كتابة سومري.. كنت مشحونا بكل الكراهية الموجودة في العالم تجاه هذا السجن الجديد بعيدا عما أرادته حريتي آنذاك، دون أن أفكر بأني – بعينين دامعتين- أولد مرة أخرى.. أرى نفسي جالسا فوق كرسي صغير في الممر الضيق بين الطاولات كدخيل على مجموعة الأطفال الذين روضهم الروتين الجديد قليلا.. لكني لست متأكدا من ذاكرتي التي يبدو أنها اخترعت تفصيل القسم الممتلئ تماما، الكرسي الزائد والصمت.. وفي لقطة أخرى أرى نفسي واقفا أمام المدرّسة -التي غادر وجهها بعناد إلى النسيان- وهي تعيد إلى قميصي زرا سقط أثناء اللعب، وأسأل نفسي، منذ ذلك الوقت، من أين أحضرت الخيط والإبرة؟
كنت أكتب فتتمرد الكلمات على السطر، رغم أن يدي تصر على إبقائها فوقه، تختار أن تحلق مبتعدة كطائرة ورقية أو أن تتزحلق أسفله كما لو كانت آثار حوافر أحصنة فوق الثلج.. تبدو حروفها متوعكة كقضبان حديدية لم تستجب بشكل جيد للنار والمطرقة.. قمت بتهريب الكلمات من القسم إلى البيت، ومن الدفاتر إلى خشب الأثاث، إلى ثوب بنطلوني فوق الركبة، إلى جلد حقيبتي وغمرت لونها البني بفيضان أزرق..
في السنوات الست الأولى من حياتي، لم تنج إلا صورة واحدة يبدو فيها وجه والدتي، وهي تلتفت نحو الكاميرا، تحمل طفلا صغيرا – أنا – يبدو كما لو أشاح بوجهه بعيدا فيما تجمدت خصلة من شعره في الهواء.. حافظت الصورة على مكانها في ألبوم العائلة دون أن أعتبرها صورتي الخاصة.. ضاعت صور أخرى وأصاب البياض ذاكرتي عن تلك الفترة.. لن ينهزم النسيان إلا مع صورة ملتقطة إجباريا للتسجيل في المدرسة، بملامح كئيبة يسهل زحزحتها لتعبر عن طفل أصاب الخراب مدينته في الحرب العالمية الثانية، يأتي الأبيض والأسود ليدعم هذا التاريخ المزور..
كنا نعرف طرقا أخرى تقودنا نحو المدرسة، لكننا مشينا في نفس المسار كل يوم أربع مرات. عبرنا إسفلت الشارع، الحديقة المعتنى بها بشكل هوسي، والتي لم نسمع عن أي شخص سمح له بالتنزه فيها، لنقترب من الزقاق الضيق الذي يتحول إلى مصيدة. هناك قرر صبي يسكن منزلا مجاورا أن يعاقب التلاميذ الصغار على المرور من تلك الأمتار المخيفة والتي قرر أنه يملكها، واظب على التربص هناك كسيربيروس ( الكلب الذي يحرس الجحيم في الميثولوجيا الإغريقية). وواظب كثيرون على المرور من هناك كأن لا مفر من الجحيم..
فترة ما بعد الظهر، في تلك الأيام الغريبة لأنها لم تكن آحاداـ ولأن المنتخب سيلعب.. نأتي إلى المدرسة خفافا بدفتر وقلم ومقرر المادة.. أقضي نصف الوقت شاردا في انتظار جرس الفسحة، أخفي الدفتر والمقرر بين بطني و حزام بنطلوني مثل جميع الصبية.. بعد أن نتجاوز باب القسم بهدوء متآمر نركض نحو منازلنا.. انقرضنا فجأة، البنات فقط عدن لكي لا يظل المعلم وحيدا، أو لكي يلعنهن في سره لأنه أراد مشاهدة المباراة أيضا… تلفزيون الأبيض والأسود حيث يتحول قميص الزاكي البحري الجميل، الأخضر والأحمر في قمصان اللاعبين، العشب، لوحات الإعلانات إلى اللون الذي يغادر فيه الأسود ثقله وتجهمه أو يعبس فيه الأبيض ويتيبس.
نمشي مباشرة نحو بوابة المدرسة، ببقايا الأحلام التي تجف فوق الجفون، نتجاوز المنازل المصفوفة على اليسار، حيث يبدو المنزل الأبيض الناشز، بشرفته الممتدة التي تلتهم واجهة طابقه الأول وخلفه نوافذ وباب للزينة فقط.. أحيانا نرى سيارة بيضاء (رونو 19) تغادر، يقودها رجل أربعيني وفي لبذلته الكاملة وشعره الغيواني، نعرف أنه رسام، سأتخيل لوحاته في ما بعد، غارقة في الظلال لأن الضوء الملحاح زائر غير مرغوب فيه.. نتجاوز سور الكنيسة الفرنسية يسارا، برجها القديم يحمل فوقه عشا ضخما للقلق نراه كثيرا وهو يمزق السماء بدأب. جمّد الصمت ذكرى الترانيم، صوت أقدام المؤمنين، هسهسات ثيابهم وكلمات قداس الأحد في تجاويف الجدران.. كنا نسمع فقط أصوات المناشير تأكلها المسافة من البناية العتيقة، عبر السور، إلينا .. لم أعرف في أي زمن ومن فكر في تحويلها إلى ورشة مهنية للنجارة، هكذا لم يتم إبعاد رمز المسيح بالكامل، وظل خيط المهنة التي مارسها يشده إلى البناية..
رسوم المقررات البهيجة ربطتنا بالكلمات، وأوحت لمخيلتي بوجود حياة أخرى بهيجة لأنها ليست حياتي. صار اقتناء المقررات في سبتمبر كل سنة متعة، حيث رائحة الورق والحبر تكون أكثر طزاجة في تحالفها مع رائحة الخريف. نبحث عن الحكايات في المكتبة الخضراء، قصص الأبراشي، و مجلة ماجد التي كنا نستعيرها من معلمنا مقابل عشرين سنتيما ليكبر العالم ويصبح بحجم المدن والقرى التي سكنتها مخيلاتنا ونحن نتتبع أثر الكلمات..
خلف البوابة أشجار وبنايات، جرس الفسحة الذي ننتظره لاستعادة حريتنا مؤقتا، للعب الذي يتحول أحيانا إلى معارك عنيفة مقنعة بالهزل نتبادل فيها الركلات.. خلف البوابة أغصان مفصولة عن حياتها الخضراء، ومعتنى بها جيدا لتصير أدوات تعذيب.. خلف البوابة حارسان تستطيع الكلمات بسهولة أن تجد لهما مكانا في استعارة عن الغفران أو العقاب. علال الطيب الذي يتهرب من مساعدة المعلم في عقابنا، ويتدخل للعفو عنا، والكوشي الذي يأتي راكضا كأنه ‘’بيوريتاني’’ من نيو أورليانز ونحن عبيده الآبقون.. خلف البوابة توجد ملهماتنا الصغيرات اللواتي كنا نعتقد أننا نحبهن، أو نحاول تقليد غمزات الكبار لنوقعهن في حبنا.. خلف البوابة ينتظرنا معلمون استعاروا شواربهم من أفلام الأبيض والأسود، ومعلمات يشبهن أمهاتنا.. خلف البوابة توجد النوستالجيا.

(قاص)


الكاتب : اعداد: زهير فخري

  

بتاريخ : 24/12/2020

أخبار مرتبطة

  ترتكز التجربة التشكيلية الحالية لعبد الله الرامي – في هذا المعرض (منتقيات Œuvres choisies) بشكل عام – على إنتاج

  قبل أن ألتقي مباشرة الروائي ووزير الثقافة الفلسطيني السابق عاطف أبو سيف، كنت أتساءل في قرارة نفسي: كيف يعيش

احتفى بخناتة بنونة، مبارك ربيع، سعيد بنكراد، أمينة لمريني عندما قالت الكاتبة والروائية خناتة بنونة، إنها أحست «منذ صغرها بـالاختلاف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *