قصة قصيرة : الحياة تختبئ خلف ذلك الشارع

العالم يواصل أكاذيبه، بينما تسرف عيناك في صدقهما المريع. في طفولتي، كنت أشعر بدوار حقيقي، كلما تخيلتني على حافة هاوية سحيقة. الآن، أتقدم نحو ذلك الشفير بعينين مغمضتين.. منجذبا إلى شراك عينيك الضاريتين، إلى نشيد أفراحي القادمة، مثقلا بتاريخ أحزاني السري.
أشد رسن الكلمات الرقيقة في رفق، وأربت على رقبتها، حتى تدخل حظيرةَ نصٍّ أليف، مثل دابة مطيعة، مدجحة بخفر عروس، وأهش على دجاج أفكاري غير الأنيقة. سوف أحاول أن أنهرها، إن حاولت التسلل، لن أدعها تقتات على فتات هذا التاريخ، لن أسمح لمخالبها أن تقلب تربة الأعماق..
(لكن، كيف يمكن أن تكتب عن تلك اللحظة، التي كتبت فيها أنك وحدك تحرس سعادتها، أيها الخائن النذل؟ كيف يمكن أن تحرس سعادة امرأة أخرى.. سعادة غير شرعية!؟ حين تمازح زوجتك، تذكرها بأنك دفعت مقابل تلك السعادة ثلاث ورقات مالية زرقاء للسي إدريس «العدول»، لكي يكتب تلك الورقة اليتيمة، بينما أنت تكتب رواية كاملة، وتستجدي تاجر كتب لكي ينشرها، لأن الريح تئن في حسابك المصرفي… يعنون السيد إدريس ورقته بعقد نكاح، بينما أنت لا تستطيع أن تصف مشهد قبلة بريئة، في قصة قصيرة، حتى لا يعتذروا عن نشرها.. هناك).
كان يستمتع بقيلولة خريفية، وكافأته عليها بذلك المبلغ. إنه محظوظ – حقا- بقيلولته وبمهنته، بينما زبائنك يقتحمون عزلتك، من أجل أشياء أكثر تفاهة منهم، بل هناك من يعلق على انغماسك الدائم في العالم الافتراضي، معتقدا أنك تقاسمهم استلاب الرداءة، والتجول الخفي في مطرح النفايات الافتراضية، كذلك الغبي الذي أفسد طعم تدوينة عن صباح يعادل الأبدية، لأنك لم ترد على تحيته، وكنت تضع سماعات الهاتف، وتتابع باهتمام تدوينة صديق شاعر.. ربما، اعتقد أنك كنت تنبش قمامات هذا العالم الموازي.
هل كان محمد زفزاف محقا في معاقبة بطل قصته النباش.. بتلك الطريقة؟!
في آخر المطاف، كل شيء ينطفئ. تماما، كما كتبت في نص سردي قديم عن الألم، الذي يجتاحنا حين يخيب مسعى ما، ويتبخر الأمل، عندما نصل إلى مبتغى ما؛ نكتشف أنه لم يكن جديرا بكل هذا اللهاث..
الآن، بعد هذه السنوات، التي صادقت فيها كل مرارات العالم، تدرك أن الفرح يشبه أرنبا يركض هاربا من ذلك الموت، الذي يطاردنا جميعا، بينما الحزن سلحفاة كسيحة تعسكر في دواخلنا.
*****
وكنوع من التحايل على قارئ ينبش تراب النصوص، بحثا عن خطايا بيضاء، دعونا نلقي له بعض بذور يانيس ريتسوس، حتى يكف عن هذا اللهو غير البريء: «بعضهم يهبطون، يصعد آخرون السلم ذاته ولا يتبادلون التحية».. لعل هذا القارئ ينسى شهواته الترابية، ذلك التراب الذي خلقنا منه، وإليه نعود، و»لا شيء منذ آدم غير ملحمة التراب»، بتعبير (حامل الفانوس في ليل الذئاب).
نعم، حتى الشهوة تنطفئ أحيانا، دون أن نعرف من سرق جذوتها من عيوننا، مثلما كتبت في تدوينة فيسبوكية :
اعتدت أن أراك مرة أو مرتين في العام.. صرت طقسا لذيذا من التلصص.
قبل سنوات، كان زوجك يتراجع إلى الخلف، رأفة بشيخوخته، بينما كنت أسمع، وحدي، صهيل عينيك الغجريتين..
غاب الرجل الطيب، ربما، آثر أن يستريح من وعثاء عمر طويل، بلا معنى… ومن سعادة متأخرة تترجم إلى مصاريف شتى، تنخر الجيوب.
هذه أشياء لا تهم، لأن شدو قوامك الفاره يسدد ما تقدم وما تأخر..
لا أعتقد أنك سمعت نحيب قلبي، في ذلك المساء البعيد، وأنت تشهرين كل أسلحتك الفتاكة.. في وقفتك المشبوهة! نعم، وقفة مجرمة، غير محترمة ! وأنت تستندين بساعديك إلى تلك المنضدة، وتتركين كل ذلك الثقل، يتأرجح على الضفة الأخرى من المسافة الفاصلة بيننا. لم تصدق عيناي أن “سترينغ” يليق بامرأة أربعينية، وهو يعلن عن نفسه، في فحيح لئيم، في تلك المساحة الهائلة من القهر التاريخي…
كنت متواطئة مع ذئب خفي، وأنت تسمعين عواءه الجريح وحدك، في ذلك المغيب، المضرج في عويل التراب.
هل تصدقين أن طيفك راود قلبي بالأمس فقط، وهاقد هبّ نسيم ربيع مباغت هذا الصباح، وأنت تبددين وحشة الخريف؟.
التقت نظراتنا. لا أثر للـ”سترينغ”. أيضا، اختفى غناء عينيك الغجري، واكتسح شحوب مقيت ملامح وجهك، كأنما سكب القدر فوق عمرك عشر سنوات إضافية. أحسست بأن كل شيء تلاشى مثل سحابة صيف، تماما كعمري الهارب نحو حتفه.
*****
الرجال شياطين بريئة، لهذا لا أقاوم سحر تلك الحديقة الصغيرة من الانكسارات، التي تموج في وجهك، حين تزرعين كينونتك البهيجة في تلك النافذة القصية، وحين لا تشرق شمسك، تغدو سماء قلبي مبلدة بغيوم الأسى. من أجل هذا الألم الخفي، الذي يجعلنا نشعر أننا وحيدان، وحيدان جدا.. أريد أن أكتب هذه القصة، لكي أتفادى شراكك، نكاية في غيابك، الشاهد الوحيد على أن الفرح يسرق خيوطه من حضورك البهيج، ليطرز فستان حبور يليق بك، ويتصدق علينا – نحن أيتام الخذلان – بالبقايا في الأعياد! أكتب لكي أنسى خيانة لعهود عيون غريبة، تعاهدت على الوفاء لندى الصباح، تحت جسر نظرة ثرثارة، وشت بصمت عينيك، في تلك الشرفة الموشومة في ذاكرة الربيع القادم!
وكل ما أهفو إليه الآن؛ قراءة سطر من قصيدة لهفتك، معانقة نغمة من موسيقى إطلالتك، لكي ألطخ بياض دفتر الغياب، وأنسى أشواك الحنين في بستان نظراتك النهمة.. فلا تمعني في سرقاتك، لا تدعي ذلك القرصان يتمادى في سلب كل شيء، دعي لغتي غير الثمينة، حتى أواسي بفقرها ندوبي الداخلية.
لن أكتب عن غيرتي غير المعلنة من سعادتك، وهي تتسور الشرفة؛ منشفتان بلونين مختلفين، متقاربتان، لا تجرؤان على التلامس، ولن تبوحا بتاريخ من العرق، وحروب أشواق ضاقت بها الملابس، فاستكانت تلك الثياب على الأرضية، مبعثرة، شاهدة على ابتذال مشاعر سماوية. أكتب لأنني لا أريد أن يتحول هذا الشجن إلى شهقة آثمة…
لكنني لن أستطيع أن أكبح جماح هذه الدموع الخفية، الصامتة. فادخلي كوخ قلبي الرث، وانهبي ما شئت من الرماد.. فقط، اتركي لي ذكرى ذلك الحضن، الذي لم أستوعبه في ذلك الصبا، وتلك المرأة تحضنني بقوة، لا يحتملها طفل ضئيل، في غياب أمي.
*****
مساء خريفي شاحب، تجرجر خطواتك في تكاسل، كعائد من حرب، خاضها دون أن تعنيه، يجر غنيمة أعطابه الباطنية. إنها حرب الحياة، التي لم نختر المجيء إليها، لكن الآخر فرض علينا أن نخوضها، دون أن نعرف من الخاسر ومن الرابح فيها، بينما الزمن لا يكف عن الذبح بمديته – في قسوة قاطع طريق خسيس، بلا قلب- كل ما يعترض طريقه.. إنه لا يمنحك فرصة العودة إلى الوراء، ولو لثوان؛ أن تعيش – مجددا- يوما واحدا من ذلك الماضي اللا يعود.. أن تستعيد صباحا، لم تدرك في تلك اللحظة التي عشته فيها، أنه مقطع من حياة هانئة، سوف تتحسر عليه لاحقا، والعمر يمضي لاهثا، مثل غيمة تتلاشى في كبد سماء محايدة.
كنت في طريقك إلى البيت، تمسك بيمناك ابنتك، في ما يشبه الزهو، بهذا الامتداد الوجودي لك. أخبرتها بالذهاب إلى المخبزة، لشراء تلك الحلوى، التي يحبها أخوها. عبرت الشارع الفاصل بينك وبينها. ذلك الشارع، الذي تختبئ خلفه حياة تشبه جنة مشتهاة. تعمدت أن تمر من ذلك الزقاق، شاحب الإضاءة. كنت منجذبا إليها، دون أن تدري. رفعت عينيك إلى النوافذ المظلمة، هطل حزن غامض في قلبك.. في تلك اللحظة ، تمنيت لو جاد عليك الزمن بحضن امرأة، كانت بمثابة خالة، لأنك لم تدرك معنى ضم الذراعين حول شخص ما في ذلك الصبا، بكل تلك الحرارة الطاغية. اشتهيت أن تعود بذات الأنوثة الفوارة، التي غربت شمسها بلا رجعة… لكن الشروق والغروب لا يلتقيان أبدا.
قبل أن تنعطف يسارا إلى الشارع الرئيس، تناهت إلى مسامعك صرخة امرأة مذعورة، تركت عربة صغيرتها في عرض الزقاق، حين عبر جرذ الطريق. أحسست بدفء كاسح يرتمي في حضنك. لا إراديا، أفلتت يدك يد صغيرتك، وتبخرت مشاعر الأبوة، التي تترجم – أحيانا -إلى خوف وحرص، بينما الجارة تتابع في ذهول ذلك العناق الغريب، وهي تمسك العربة بيد، وبالأخرى، تتشبث بابنتها.. اعتذرت المرأة عن هذا الارتطام غير المقصود، بصوت مسكر، وأنت شبه غائب عن الوجود، وتسارع إلى استعادة يدين، استكانتا فوق خصر، تسترخي فوقه مباهج الأبدية.


الكاتب : هشام بن الشاوي

  

بتاريخ : 12/11/2021