قصص قصيرة.. العقرب الراقصة

رحى الألم لا تتوقف بدواخله، صارت رأسه ثقيلة بذكريات أليمة توخز قلبه الهش المهيض كوخز الإبر الحادة السميكة، هام على وجهه باحثا عن ترياق لعلته، علة اللانسيان، يتذكر ماضيه البعيد وما عاشه وقتها كأنه وقع منذ قليل.
في سعيه للعثور على ملجأ لألمه وهواجسه، دلف إلى ماخور تقليدي وارتكن إلى ركن مظلم وجالس يعاقر الخمر المحلي، وحوله سكارى يتحدثون في أمور الحياة من جفاف و غلاء الأسعار واحتجاجات الشعب والحكومة الفاشلة والفقيه الذي حرّم الاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة، وزلزال تركيا وسوريا، وحرب أوركرانيا ووباء كورونا الذي صنعه الغرب لقتل المسلمين… شاركهم الحديث في خاطره لكنه لم ينبس بكلمة بل بقي وحيدا يداري هواجسه. وحين بلغ الثمالة من كأسه الأخيرة ثمل وحلّت عقدة لسانه وتلونت الحياة أمامه بكل ألوان الطيف الزاهية وتفتحت لديه شهية الكلام، وتوقف متمايلا فوق منضدة متهالكة وخاطب الحاضرين قائلا:
_ يا أيها السكارى! هل منكم من يعرف ماذا قال الشعراء عن الخمرة؟
رد عليه رجل بلغ من السكر مبلغا وبدأ في التقيء :
– « شكون هاد الشعراء»
أجابه على عجل كأنه ينتظر هذا السؤال بالضبط:
– « أعرف أنكم مجرد رعاع لا تقرؤون ولا تعرفون عن الشعر والأدب شيئا يذكر، مجرد عمال وفلاحين وحمقى ومجانين ومسؤولين فاشلين وعشاق مَخدولين مَهزومين وسارقي حقائب النساء وأحلام الآخرين…تتجمعون كل مساء هنا لتملأوا بطونكم المتدلية بماء عفن كعادة ألفتموها لكن عقولكم فارغة يعوي فيها الريح. اسمعوا أيها الملاعين الأغبياء سأجعل لسكركم معنى وسأنثر عليكم المعرفة عسى أن تتعظوا وترتشفوا مع خمركم عٍلما نافِعا فنجعل معا هذا الماخور المَغْمور فضاءً للعِلم والمعرفة والنقاش العلمي الراقي. انصتوا، فهذا أبو نواس ومن لا يعرفه! شاعر الثورة والتجديد وشاعر الخمرة والعربدة. أحب الخمرة حبا جما وقال فيها شعرا جميلا مُقفى، وجعلها حبيبته التي لا تخون، وخليلته التي تستحق الحب والعشق لأنها تمنح الحياة والأمل والتفاؤل وكل المشاعر الجميلة. فقد قال :
_ألا فاسقني خمرا، وقل لي هي الخمر. ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر. فما العيش إلا سكرة بعد سكرة فإن طال هذا عنده قصر الدهر.»
وهذا إيليا أبو ماضي يقول :
_ وما الكأس لولا الخمر غير زجاجة، والمرء لولا الحب إلا أعظما.»»
صار يسرد عليهم ما قيل حول الخمر من أقوال خالدة إلى أن قاطعه أحد السكارى وهو يحاول أن ينظر إليه لكن عينيه الناعستين من كثرة الشُرب لا تسعفانه في ذلك وقال بصوت متقطع كمذياع على حافة الإنطفاء :
– «وماذا قلت أنت أيها الشاعر؟»
ضحك كل من في الماخور وعقّب أحدهم بعد أن عبّ ما تبقى من كأسه دفعة واحدة:
– «إنه يقرأ من هاتفه ما يقوله…»
ضحك الجميع بهستيريا لدرجة أن أحدهم استلقى على ظهره ويلعب برجليه في الهواء كأنه ينتظر هذه اللحظة بالذات ليخرج الطفل الدفين بداخله.
انسحب من تلك الضوضاء بعد أن استحال عليه مجاراة السكارى في النقاش. وعند البوابة الواطئة التفت إليهم وهمس قائلا :
– « من يحدث السكارى عن الشعر كمن منح وردة للحمار ليشمها فأكلها».
غادر الماخور واتجه إلى مسكنه، يمشي متمايلا مترنحا يحاول أن يستقيم في المشي دون جدوى، يسقط ويقوم في الحين وينفض عنه غبار الطريق ويستقيم واقفا كأن شيئا لم يحدث.
عند شجرة كالبتوس عملاقة على حافة الطريق بجانبها عمود كهرباء بضوء خافت شاحب، توقف وتأمل كثيرا في المكان، مكان لطالما ذكّره بحبه الأول ولقائه الأول بحبيبته السابقة التي كانت له كل شيء، الهواء الذي يتنفسه والماء الذي بدونه لن يعيش والنور الذي يستضيء به، والعين الوحيدة التي يرى بها الدنيا. لكن كل ذلك أفل في برهة من الزمن الهارب. يمّم وجهه جهة جذع الشجرة وجلس تحته مسندا ظهره إليه ونزلت غشاوة من حنين ولوعة الفراق على قلبه وجلس يبكي على قلبٍ انكسر وتُرك وحيدا تلعب به الأيام. ينتحب كالثكلى ليفرغ ما بجوفه من أنين صامت دفين. قضى ردحا من الزمن متجمدا في مكانه يهيم في عالم غير الذي يعيش فيه. لملم شتاته ومسح دموعه وقام من مكانه ولما همّ بالمغادرة لمح عقربا أسود حالكا. اقترب منه وراح يتأمله ورأى في عمق سواده شيئا من سواد عيني حبيبته، تذكر كيف كانت تحب العقارب لأن بُرجها هو العقرب، كما تذكر كيف لسعته وفرّت هاربة تاركة إياه يداري جراحه لوحده. دنا منه حد التماهي وانبهر بالسواد في عينيه، تراءى له خيال حبيبته أمامه كملاك خرافي، بطولها الفارع، وخديها الورديين، وشعرها الحريري المنسدل الأشقر، ونهدها الواقف، وتقاسيم جسدها المنحوتة بدقة حِرفي بارع. اقترب منها حدّ الاندماج، دعته للرقص فاستجاب، مدّ يده إليها فطاوعته رغم الدهشة التي اعترته حينها. طوق خصرها، فشرعا في الرقص معا، يهمس في أذنها همسا شجيا، كلمات حب عذبة :
-» يسمعني حين يراقصني كلمات ليست كالكلمات…»
يضيف كلمات شاعرية من ذات الوزن من إبداعه إلى الأغنية، يغرقا معا في قبلة طويلة كالحلم وقصيرة كالحياة، وقبل أن يصل الثمالة من كأس العشق المشتهى، أحس بطعنة غادرة وراء ظهره، المدية تنغرز بتؤودة في أحشائه. سال الدم والحلم معا، وانقشع الوهم وانبجست الحقيقة أمامه صلدة.  أحس باللسعة في سبابته الممتدة إلى العقرب وثقلت عليه، والسّم الزعاف يتمدد في شرايينه، أزيلت الغشاوة عن عينيه وقام يسابق الزمان إلى المشفى والسُكر قد ذهب عنه.


الكاتب : حسن بوازكارن

  

بتاريخ : 03/03/2023