قضايا من التاريخ الجهوي للجنوب المغربي خلال القرن 19 : محاولة المخزن احتواء سوس ووضع حد نهائي للتمردات القبلية -26-

تكتسي الكتابة حول تاريخ الجنوب المغربي دورا مهما في إغناء المكتبة التاريخية المغربية، نظرا لأهمية هذا المجال في فهم واستيعاب العلاقة بين المركز والهامش ، أي العلاقة بين السلطة المركزية والقبائل وتمكننا دراسة هذه العلاقة بشكل يستجيب والموضوعية التاريخية إمكانية كتابة التاريخ من أسفل. ولعل ما كُتب حول الجنوب المغربي لا يغطي متطلبات الباحثين من مختلف مشارب المعرفة الانسانية، بمن فيهم المؤرخين الذين وجدوا صعوبات ما تزال قائمة لصياغة مونوغرافيات مركبة تتماشى والتوجه الجديد في الكتابة التاريخية الجديدة والتي تركز على التاريخ الاجتماعي والاقتصادي وتاريخ الذهنيات وتاريخ المهمشين أو المسكوت عنهم في الكتابة التاريخية.

 

يمكن القول ومن خلال المراسلة أن المقاصد والغايات كانت محددة قبل مجيء السلطان إلى سوس، وبالتالي فهذه الحركة حققت أهدافها المنشودة والمسطرة منذ أن كان السلطان المولى الحسن وليا للعهد، حيث تم إشعاع المخزن في السوس الأقصى بناء على استراتيجية المسالمة (أرفاك شفيق ، م.س ،ج2، ص:397.) التي تشهد بها جميع المصادر المؤرخة لهذه الفترة. وما زاد من نجاح هذه الحركة هو ذلك الانقسام القبلي الذي شهدته سوس بعيد تعيين المولى الحسن لقواد ليسوا من نحلة هذه القبائل، حيث تسجل المصادر بإجماع على أنه بمجرد مغادرة السلطان سوس انتفض أهل سوس على حكامهم، ونورد هنا شهادة للمختار السوسي بخصوص هذه النقطة: “…وبعد رجوع السلطان من سوس ثارت العامة على هؤلاء القواد فكانوا معهم في عراك …”. (السوسي محمد المختار ، خلال جزولة ، م س، ج4، ص،100.) وقد لعب الحسين أهاشم خلال هذه الأثناء دورا مهما في إشعال لهيب الفتن التي اندلعت بسوس، ومع ذلك فإن المخزن رأى فيه الرجل المناسب الذي بإمكانه أن يفض النزاع الذي دار في كل من مجاط وأيت بعمران وأيت الرخا. (مراسلة من السلطان المولى الحسن الأول إلى الشيخ الحسين بن هاشم ، بتاريخ 8 ربيع الثاني 1302/17 يناير 1885.خزانة بودميعة البوخاري، إنزكان ، المجلد الرابع.) ونظرا لتفاقم الأوضاع كان لابد للسلطان أن يحط رحاله مرة أخرى بسوس لوضع نهاية لهذه الأزمة، وفي انتظار ذلك وحتى تتأكد مساعي السلطان لهذه المبادرة فقد قدمت مكافآت مادية لمن سوف يتغلب على هذه الأزمة، وهكذا تمدنا الوثائق المخزنية بمعلومات مفادها أن السلطان وضع رهن إشارة محمد بن الحسين أهاشم دارا في الصويرة وذلك في 10 ربيع الثاني 1303 الموافق لـ 16يناير1886 ، ” وأما الدار فقد كتبنا لأمناء الثغر المذكور (الصويرة) لتعيينها لك مناسبة لك ودفعها لك وإعلامنا بها وبصفتها ومجاوريها بعد لنكتب لك بها ظهيرنا الشريف والكتاب لهم بذلك والسلام”. (مراسلة من المولى الحسن الأول إلى محمد بن الحسين اهاشم، مؤرخة ب10 ربيع الأول1303 الموافق لـ 16 يناير 1303، وثائق بودميعة البوخاري.) بالإضافة إلى الحفاظ على نفس الامتيازات التجارية التي متع بها المخزن أباه. (مراسلة من السلطان المولى الحسن الاول غلى شريف تازروالت الشيخ محمد بن الحسين اهاشم ، بتاريخ 10 ربيع الثاني 1303/ 16 يناير 1886.) ونظرا لأن الواقع بدأ ينبئ سادة إيليغ بأن المستقبل القريب سوف يكون وابلا عليهم فقد ارتموا في أحضان المخزن وأصبحوا مخبرين له وناطقين باسمه في سوس. (ما يؤكد هذا الطرح عدد المراسلات التي بعث بها السلطان إلى محمد بن الحسين اهاشم في ظرف سنتين قبل الحركة الثانية. أنظر كذلك دانييل شروتر، م س، الهامش 199، ص:361 .)
لقد حققت الحركة الثانية أهدافها في سوس، لهذا عمل السلطان ما في وسع جهده حتى يعطيها طابعا رسميا يختلف عن ذلك الذي عرفته الحركة الأولى، وهكذا وقبيل الحركة بشهور التقى وفدا يضم الإيليغي وأعيان سوس ويرجح البعض أن يكون الغرض من ذلك هو مناقشة نازلة الحركة الثانية. وقد حددت المقاصد والغايات من الحركة الثانية في محاولة المخزن احتواء سوس بوضع حدا نهائي للتمردات القبلية ضد ممثلي المخزن (مراسلة من السلطان المولى الحسن الاول على شريف تازروالت محمد بن الحسين أهاشم بتاريخ 17 ربيع الأول من عام 1303 / 31 دجنبر1885. خزانة بودميعة البوخاري إنزكان. رسالة مشار إليها عند شفيق أرفاك ، م.س، ج2، ص :392.). لقد وصلت الحركة الحسنية الثانية إلى مقصدها بعد أن حطت رحالها بكلميم في الوقت المحدد و وضعت لها كل الترتيبات اللازمة. (وصل العدد الإجمالي للمشاركين في هذه الحركة إلى ستون ألف رجل ، كما تولى أمناء القبائل الحاحية وقبائل شتوكة ومسكينة وتزنيت وأيت باعمران عملية تخزين الحبوب. بخصوص هذه النقطة يرجى العودة لكل من :
العلمي أحمد ، حركتا السلطان الحسن الاول إلى سوس (1882-1886)، ضمن ندوة مدينة تيزنيت وباديتها في الذاكرة التاريخية والمجال والثقافة، جامعة ابن زهر منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير، أعمال الأيام الدراسية 12-13-14 نونبر 1993،58.دانييل شروتر، م.س، ص : 362.)
نخلص إلى القول بأن هذه الحركة حققت المبتغى المطلوب وكانت تأكيدا كبيرا لسلطة المخزن المركزي بسوس الأقصى، كما تمكنت الحركة من وضع حد لنفوذ الزعماء المحليين عن طريق احتواؤهم مخزنيا بتعينهم قوادا على دوائرهم القبلية، ومنحهم تسهيلات تجارية بالصويرة لطي صفحة الماضي المتعلقة بالتعاون مع التجار الأجانب على السواحل الجنوبية المغربية. كما ستشكل تيزنيت التي أعطيت مبادرة بناءها منذ الحركة الأولى 1882 دورا فعالا في مراقبة الجنوب المغربي بعدما كانت الصويرة تقوم بهذا الدور، وبانتهاء موسم 1886 لوحظ تدحرج في الأدوار التي كانت تقوم بها المواسم الجهوية والتي كانت تشكل أحد مصادر قوة ونفوذ الزعماء المحليين، وفي مقدمتهم آل هاشم وآل بيروك، وقد نتج عن ذلك توقف تجارة السودان بعد ثمانية سنوات من الحركة الثانية وهو التاريخ الذي صادف الغزو الفرنسي لتنبوكتو ووفاة المولى الحسن الأول سنة 1894 الشيء الذي سيؤدي إلى تمرد القبائل، لكن هذه المرة في السوسين الأدنى والأقصى، لهذا لا غرابة إذا ما قلنا أن سوس سيعرف مشاكل فاقت تلك التي كان عليها قبيل الحركة. ويمكن الـتأكيد هنا على ملاحظة بدت لنا أساسية وهي أن دور تجارة الصحراء وتحولها نحو “سان لوي” كان كبيرا وحاسما في تراجع سلطة دار إيليغ.


الكاتب : ربيع رشيدي

  

بتاريخ : 15/04/2024