كائنات بين الحلم واليقظة في تجربة هدى بنجلون

تتفرد تجربة الفنانة هدى بنجلون بتعدد الأساليب في الأسلوب الواحد، انطلاقا من فكرة تميز بها الفنان الألماني جرار ريشتر في أحد تصريحاته، إذ قال في مضمونها: “وظفت جل الأساليب لأتفرد بأسلوبي”، وهكذا كان في آخر أعمال هذه الفنانة، لكن بنظرة استنبطتها من جذور ثقافتها المغربية، استنادا لرؤى منبثقة من الحلم واللاشعور، مما يؤكد على فرادة أسلوبها سواء على المستوى الموضوعي أو التقني، فكانت النتيجة انعكاسا لمشاهد فنطاستيكية، تحيل على عوالم خيالية، تنتقل في بساتينها بكل حرية وسلاسلة.
ولكي نعرج على تفكيك هذه التجربة بتفاصيلها، لابد من الرجوع إلى مرجعياتها وأصولها لتحديد هويتها وامتداداتها في التشكيل المغربي، انطلاقا من سابقاتها عند بعض الفنانين المغاربة كعباس صلادي وغيره من المبدعين.
لا يمكن تناول تجربة الفنانة هدى بنجلون إلا من زوايا مختلفة، يتقاطع فيها الشكل بالمضمون، على مستوى التيمة الإجمالية، حيث حضور ما هو روحي ونفسي في آن واحد، تحت يافطة الحلم، بعيدا عن التشخيصية التقريرية التي تهتم بنقل الواقع، بل هي تجربة تطرح تساؤلات ميتافيزيقية، جعلت من الأيقونات الأسطورية مدخلا لتفسير أحلامها.
تلك الأحلام التي تنفلت من أذهاننا فور استيقاظنا من النوم، بمعنى أنها تقيم في البرزخ للانقضاض على ما تبقى منها، لتصبح قناصة لظلال وأشباح مبهمة.
مما يحيلنا في جزء من أعمال هذه الفنانة على تجربة عباس صلادي، التي قال عنها الفنان والناقد ابراهيم الحيسن بيومية القدس العربي ليوم 6 أبريل 2021 تحت عنوان “الفن في أبعاده الغرائبية” ما يلي: “اتَّسمت لوحات صلادي التصويرية الأولى بالمنحى التشخيصي الفطري، حيث جسَّد فيها مشاهد اجتماعية مستوحاة من الحياة اليومية في مراكش، قبل أن ينزع أسلوبه الفني لاحقاً وتباعاً نحو الغرائبية، بما هي “لحظة اقتناص للحياة المتخيَّلة” بحسب توصيف رولان لوبيل…”.
إن نقطة التقاطع في التجربتين هو الأسلوب التشخيصي الفطري، الذي يصب فيما هو غرائبي، بأسلوب كرافيكي هيمن فيه الرسم على الصباغة، فكانت الخلفية للسند هي التي تمثل قاعدة لوحاتها باحتفالية لونية وبنتوآت خطية سوداء تؤكد على أهمية الأشكال المعروضة، تلك الأشكال والأيقونات الآتية من أرخبيلات جمالية تعكس تصورات إستيتيقية التقطتها الفنانة هدى بنجلون من ذاكرتها ومتخيلاتها الروحية، كعمل تركيبي، لخلق تكوينات متوازنة تؤطرها المساحة في مجملها، وكأننا أمام عمل طفولي تلقائي لا يخضع للمنظور Perspective بمفهومه الأكاديمي، لتتحرر من كل القيود الإجبارية التي تحددها المناهج المتداولة، وهذا ما أعطى لتجربتها تفردا نوعيا وأسلوبا خاصا.
إن المرأة من بين العناصر الأساسية في تجربة هدى بنجلون، تحيط بها رقعة غنية مكونة من الطيور والحيتان والعجلات والتماسيح وعرائس البحر والصور التذكارية.. جميعها تطفو على السند لتفضي بالمتلقي المحتمل في سراديب التخييل، كطرف لا يتجزء من فسيفساء هذه الأعمال، استنادا إلى اللاشعور الجمعي، الذي يجمع ما بين الملموس والهيولي، ويفصل بينهما في نفس الآن.
إنها تمثلات برزخية لحياة بعد الموت، بملون إيجازي، وأيقونات في غالبيتها عمودية أي الحياة، وأخرى أفقية أي الموت، على مستوى التكوين بتضاد لوني يجمع بين النور والعتمة وبين الحياة والخلود بعد الموت، داخل قالب روحي كتأمل في أعماق الذات بتناقضاتها، لتجعل منها الفنانة هدى بنجلون فوضى مرئية خلاقة ومنتجة للجمال بالمفهوم الفلسفي الذي ينتصر للحياة الأبدية.
وفي هذا الصدد، فإن فلسفة الفن تعتمد في عمقها إما على فهم الظواهر، وإما لتجسيدها، وإما لكشف عن مفاهيم وعوالم جديدة، إذ يقول الكاتب المغربي عبد الله الحيمر في مقطع من مقال له صدر بجريدة القدس العربي تحت عنوان “الفن التشكيلي وسؤال الأفق الفلسفي” بتاريخ 1 أبريل 2021، ما يلي: ” أصبح الفن التشكيلي حاملا لفكرة فلسفية، تتمثل بتفاعل الأنا بالحدس وخيال الإنسان بالعقل، أي التجاوز بين الواقع الملموس، إلى الرمز المتصل بعالم الرؤى والأحلام، كما شرحه العالم النفسي السويسري يونغ…”.
إن نوعية طرح السؤال من هذا الحجم الذي أشار إليه عبد الله الحيمر في تجربة الفنانة هدى بنجلون، ربما لم يفرض نفسه انطلاقا من مرجعياتها )الفكرية والكتبيةLivresque (وإنما كانت نتاجا لإحساس شعوري ترجمته مرئيا كاستنبات من واقع محيطها وتجربتها الحياتية اليومية، دون الشعور بأهمية ونوعية وحجم هذا السؤال المقلق، مما أودى بها إلى اكتشاف أرخبيلات لها علاقة بفطرة مخيلتها الواسعة.


الكاتب : شفيق الزكاري

  

بتاريخ : 03/02/2024