كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ 19 : كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ أكبر مستشفى عسكري بمكناس على مساحة 27 هكتارا و بـ 556 سريرا، منذ سنة 1915

 

 

كيف دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ وضمن أية ظروف، وفي أية سياقات؟ وأين بنيت أول مؤسسة استشفائية حديثة بالمغرب؟ من بناها وما هي الأدوار التي لعبتها؟. تلكم بعض من الأسئلة التي تحاول هذه الحلقات، ضمن فسحة رمضان 2020، أن تجيب عنها.
والغاية، ليست فقط تتبع خريطة ميلاد «خدمة الصحة العمومية» ببلادنا، وكيف تم رسمها منذ 1910 ميلادية، بل تقديم معلومات تفسر كيف أن صدمة الإستعمار التي جعلت المغربي (في النخبة وفي المجتمع) يصطدم مع الحداثة الصناعية والإقتصادية والسياسية، التي غيرت من وعيه لذاته وللآخ رين وللعالم.. كيف أنها حققت ذلك ليس بالضرورة فقط عبر المدفع والرشاش والرصاص، بل أيضا من خلال نوعية الخدمات المدينية الجديدة التي جاءت مع المستعمر. وليس اعتباطا ما قاله في إحدى رسائله إلى قيادته العسكرية العامة بباريس، الماريشال ليوطي (أول مقيم عام فرنسي بالمنطقة التي احتلتها باريس من التراب المغربي)، حين خاطبها قائلا: «أرسلوا لي 4 أطباء، سأعيد إليكم 800 عسكري».
إن ما سأحاول تتبعه معكم هنا، هو قصة ميلاد خدمة الطب الحديث بالمغرب، من خلال قصة ميلاد العديد من المؤسسات الطبية بمختلف المدن المغربية من الدار البيضاء حتى أكادير، مرورا بالرباط، فاس، مكناس، مراكش، ابن أحمد، سطات، خنيفرة، الخميسات، وجدة، قلعة السراغنة، الصويرة، آسفي، الجديدة، القنيطرة، سلا وغيرها كثير. معززا بصور نادرة تنشر لأول مرة بالصحافة الوطنية المغربية. وأيضا كيف ولدت الصيدلة بالمغرب ومعهد باستور وطب الأسنان والطب النفسي والعقلي والطب المدرسي… إلخ.
هي رحلة في جزء منسي من ذاكرتنا الجماعية، كما صنعها الإحتكاك مع الحداثة من خلال بوابة الطب والصحة العمومية. والمناسبة شرط كما يقال، ونحن نعيش عصر مواجهة جائحة عالمية مثل وباء كورونا. (للإشارة كل الصور التي تنشر ضمن هذا البحث التاريخي مؤخوذة عن كتاب حفظ الصحة والجراحة بالمغرب الصادر سنة 1937 عن مصالح حفظ الصحة بالمغرب).

 

 

نتقل الآن إلى مدينة استثنائية في تاريخ المغرب، هي مدينة مكناس (ظلمها الإهتمام التاريخي كثيرا، بسبب جوارها مع فاس التي حجبت عنها تماما شمس ذلك الإهتمام). والحال أنها واحدة من المدن الإمبراطورية بالمغرب، شكلت عاصمة ملك على عهد السلطان العلوي مولاي اسماعيل لأكثر من 50 سنة، وهي مرحلة الحكم التي برزت فيها لأول مرة بالمغرب ملامح بنية تدبيرية جديدة للدولة، بجيش نظامي محترف في القرن 17، بتنظيم مالي وتجاري وفلاحي يتأسس على أولوية “حاجة السوق” لضمان الأمن الغذائي ومنع كل أسباب القلاقل والتوترات كلما كانت هناك فوضى في السوق لهذا السبب أو ذاك (العديد من الدراسات التاريخية الأجنبية الناتجة عن سفريات أروبية إلى المغرب وعاصمته مكناس حينها، تؤكد أنه في عهد ذلك السلطان تحقق فعليا معنى ملموس شامل للأمن بالمغرب).
في الأدبيات الإستعمارية (في مقدمتها كتابات ومذكرات وخطب الماريشال ليوطي)، هناك دوما تركيز على الموقع الإستراتيجي لمكناس في مجال جغرافي ممتد بين الأطلس المتوسط وجبال الريف وسهل الغرب والعاصمة الرباط. فهي مجال محوري استراتيجي هام في ممرات العبور بين شمال المغرب وجنوبه، شرقه وغربه. لهذا السبب اختيرت باكرا كمجال جغرافي لبنية عسكرية مركزية من قبل المعمر الفرنسي، وأيضا مجالا لإنضاج صناعة فلاحية جد متقدمة ونوعية، بفضل ما تتوفر عليه من ثروات مائية كبيرة ودائمة الجريان على طول السنة بفضل واد بوفكران (الصناعات المرتبطة بغابات الزيتون، وكذا تلك المرتبطة بحقول الكروم والعنب الشاسعة بها). بالتالي ظلت مكناس رهانا استعماريا كبيرا ضمن الخطة الفرنسية لإعادة هيكلة المغرب أمنيا واقتصاديا ومؤسساتيا.
لهذا السبب نجد أنها من المدن المغربية الأولى التي أنشأت فيها مصالح طبية عسكرية ومدنية منذ 1911. وكانت البداية مع إنشاء المستشفى العسكري “لويس” في آخر سنة 1911، داخل القصر الملكي قبالة ساحة لهديم، قبل أن ينتقل إلى منطقة فلاحية ممتدة سنة 1915، حيث شيد مستشفى جديد على مساحة ضخمة تصل إلى 27 هكتارا، مما يجعله أكبر مستشفى عسكري ومدني بالمغرب حينها على الإطلاق. ضم حسب وثيقتين لكل من الطبيب العسكري الرائد آبادي والطبيب العسكري الدكتور سانغاي، منشورتان ضمن كتاب “حفظ الصحة والجراحة بالمغرب” سنة 1937، 556 سريرا (ضمنها 56 سريرا للمدنيين المغاربة المسلمين واليهود)، وأن معدل ما ظل يستقبله من مرضى للعلاج والتطبيب الجراحي سنويا أكثر من 5 آلاف مريض.
كانت هندسته المعمارية الجديدة، غاية في الإبداع، زاوجت بين المعمار التقليدي المغربي (القباب) وبين الشساعة المجالية للهندسة الهوسمانية الفرنسية والأروبية (نسبة إلى المعماري الفرنسي الشهير هوسمان على عهد نابليون بونابارت الذي أعاد تنظيم المجال العمراني بباريس). مثلما أن هندسة الحدائق الشاسعة داخله، قد جعلت من الجانب النفسي واحدا من الوسائل الحاسمة للشفاء، حيث يقضي المريض فعليا فترة نقاهة في جو رائق جدا. فيما كانت أقسامه موزعة بشكل مستقل بين جناح الجراحة، جناح الطب العام، جناح الأمراض المعدية، جناح الطب المدني، جناح الأمراض الجنسية، جناح الولادة، جناح الصيدلية ومختبر التحليلات، جناح الأشعة والراديولوجي، جناح مختبر التحليلات البكتيرية والوبائية. تحت إشراف ثمانية أطباء مركزيين وطبيب صيدلي و18 ضابط من رتب عسكرية مختلفة للشؤون الإدارية والرعاية الطبية، 7 ممرضين أجانب، 6 ممرضين مغاربة، 6 ممرضات أجنبيات، 40 مساعدا مغربيا. ولقد لعب ذلك المستشفى دورا حاسما في مواجهة أوبئة فتاكة مثل الملاريا والجدري وأمراض معدية مثل السل والزهري، بنسب جد عالية، شكلت واحدة من أهم المعدلات الطبية في المغرب كله ابتداء من سنة 1918. مع الإشارة إلى أن إطلاق إسم “لويس” على المستشفى العسكري، كان فيه تكريم للطبيب العسكري الفرنسي الدكتور لويس (ملازم أول)، جرفه مرض التيفويد بالمدينة شهر أكتوبر من سنة 1911. وشمل مجال خدمات ذلك المستشفى الصحية كلا من مكناس وميدلت وخنيفرة وصولا حتى مدينة أرفود البعيدة بأكثر من 350 كلمترا عن مكناس (قسم اليوم هذا المستشفى الكبير، وأصبحت بنايته القديمة ذات القباب مستشفى مدنيا إسمه مولاي اسماعيل، وغير بعيد عنه أنشأ المستشفى العسكري مولاي اسماعيل، وفي باقي مساحته الشاسعة أنشأت ثكنات عسكرية).
بالتوازي تم إحداث مصلحة مستقلة للرقابة الطبية ضد الأمراض الجنسية، بالحي الجديد المخصص للدعارة الذي تم إحداثه بالمدينة سنة 1919 (حي المرس)، مما مكن من التغلب على تفشي الأمراض الجنسية بمكناس في سنتين فقط، بسبب الصرامة الكبيرة في مواجهة الإنفلات الأمني الذي كان سائدا من قبل في مجال الدعارة. مع تسجيل معطى مهم، هو تواجد نواة كبيرة للدعارة الأجنبية بمكناس من خلال شبكة من “بنات الهوى” الأروبيات اللواتي كان زبائنهن من كبار الضباط ومن عناصر الجيش بالمدينة، وهي الشبكة التي تم التعامل معها بشكل مستقل عن التعامل مع الشبكة المغربية. حيث تم تلقيح أكثر من 82 ألف مواطن مغربي وأجنبي ضد مرض الزهري في الفترة ما بين 1917 و 1920. فيما قدمت علاجات طبية لأكثر من 1700 بائعة هوى بالمدينة مغربيات وأجنبيات في ذات الفترة الزمنية.
مثلما تم إنشاء المستشفى المدني للمغاربة المسلمين واليهود، ابتداء من سنة 1917 (أطلق عليه إسم مستشفى سيدي سعيد، لا يزال قائما إلى اليوم)، عند مدخل المدينة القديمة لمكناس، على مساحة كبيرة توازي 5 هكتارات، متضمنا لأجنحة طبية متعددة، من ضمنها أجنحة الأمراض الصدرية والسل، والأمراض الجنسية والزهري، والأمراض الباطنية، والجراحة، والراديولوجي. حيث كانت تجرى به، في المعدل سنويا إلى حدود سنة 1930، أكثر من 190 عملية جراحية، فيما يتجاوز معدل الإستشارات الطبية سنويا ما مجموعه 115 ألف استشارة. وهو المستشفى الجديد حينها الذي جاء ليعزز دور مركز طبي مدني صغير مخصص للمواطنين المغاربة المسلمين واليهود، أنشأ سنة 1913، هو المركز الصحي “بولان” بدار الباشا التي كانت السلطات الإستعمارية قد أخذتها منه بالقوة. ولقد أصبحت مهامه الطبية، بعد بناء المستشفى المدني، محصورة أكثر في طب العيون وفي تتبع حالات الإصابة بمرض الزهري، على مستوى تقديم الأدوية واللقاحات بالمجان، قبل أن يفتتح فيه قسم خاص بمعالجة مرض السل سنة 1918، تابع للعصبة المغربية لمحاربة داء السل حينها. ولقد أطلق عليه إسم “بولان” تكريما للطبيب العسكري الفرنسي “بولان” الذي توفي بسبب إصابته بعدوى التيفويد في نونبر 1921.
من الأرقام التي تقدم الدليل على تقدم الخدمات الصحية الحديثة بمكناس، التي ازداد تعداد سكانها في عشر سنوات بالثلث، في المرحلة ما بين 1915 و1925، حيث بلغ تعداد سكانها 65 ألف نسمة، هو عدد العيادات الطبية الخاصة التي افتتحت بها ما بين 1913 و1925، الذي بلغ 14 عيادة طبية عامة وخاصة (أشهرها عيادات الأطباء فيدال، دولوك، غيغي، بولان، سانغي،غليلمي، باتو). بينما افتتحت بها 6 صيدليات (من ضمنها الصيدلية الحديثة للطبيب الصيدلي السيد غيران بشارع فاس، والصيدلية الجديدة لوالدته مدام غيران، وصيدلية الدكتور شوميناد بزنقة الجمهورية بوسط المدينة الجديدة). وافتتحت بها 6 عيادات لطب الأسنان (من ضمنها عيادات آلير بساحة السوق، آرغو بزنقة الجمهورية، مدام كانتالو بشارع مزرك، مارثي بزنقة فيرساي).
من المناطق القروية الجبلية التي افتتحت بها نقط طبية حديثة منذ العشرينات، منطقة آزرو، التي كانت صعبة التضاريس (خاصة في فصل الشتاء)، حيث يستعرض تقرير طبي منجز سنة 1936، من قبل الطبيب العسكري الفرنسي الدكتور آندريو، الذي سيعين طبيبا رئيسيا ببلدة آزرو حينها، منذ 1925، الظروف القاسية التي كانت تقدم من خلالها الخدمات الصحية بالجهة الجبلية تلك والمترامية الأطراف، خاصة عند تراكم الثلوج التي يؤكد أنها تصل إلى أكثر من مترين من العلو، وتبقى مجللة تلك الأعالي لثلاثة أشهر كاملة. ورغم ذلك فإنه قد تم إحصائيا تقديم خدمات طبية بلغ عددها 22 ألف استشارة طبية، وتم أيضا تقديم 4 آلاف تلقيح من دواء الكينوديل و 9565 تلقيحا ضد مرض الزهري، ضمن ساكنة ممتدة قرويا تقدر ب 35 ألف نسمة.
كانت المصالح الصحية القارة تلك تضم مركزا طبيا ببلدة أزرو، به طبيب رئيسي، ومستوصفات دائمة بكل من عين اللوح، الحمام، مريرت. وكانت كلها تضم ممرضين قارين، يقدمون الإسعافات الأولية ويتتبعون دواء الحالات التي يكون الطبيب الرئيسي لآزرو قد عالجها في زياراته الأسبوعية. مع وحدة طبية متنقلة كانت تجوب مناطق إيتزر (في اتجاه ميدلت)، حيث يسجل تفشي كبير لمرض الزهري ومرض الجدري بمناطق بومية، آغبالو، سردان، التي كانت تنظم بها زيارات طبية أسبوعية متوازية مع أيام أسواقها الأسبوعية.
بينما في الإتجاه الشمالي للإقليم (جنوب فاس بحوالي 27 كلمترا) كان تمة مركز طبي عسكري هام بمدينة صفرو، أنشأ سنة 1911، لفائدة ساكنة تتكون من 7 آلاف مغربي مسلم و 4 آلاف مغربي يهودي و350 أجنبيا أروبيا. ولقد بقي تابعا للطب العسكري الفرنسي حتى سنة 1925، حيث تم إلحاقه بمصالح “الصحة العمومية المدنية بالمغرب”. ولقد ظل يقدم خدماته الطبية في المعدل ل 6 آلاف مريض سنويا، كما يؤكد ذلك تقرير طبي للدكتور غابرييل بالافير (الطبيب الرئيسي لصفرو سنة 1922). وكانت تجرى به بضع عمليات جراحية، خاصة في حالات الكسور أو جروح حوادث الشغل، بفضل توفره على راديو إشعاعي حديث وجديد منذ سنة 1918. ولعب دورا محوريا في عمليات التلقيح ضد الأوبئة الفتاكة خاصة الجدري والتيفويد، ومعالجة الملاريا، وأمراض الجلد والزهري، حيث بلغ عدد التلقيحات المقدمة من خلاله أكثر من 137 ألف تلقيح، في المرحلة ما بين 1911 و1925.


الكاتب : لحسن العسبي

  

بتاريخ : 16/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *