محنة المحامـاة في القرن 21 

تكشف بعض الحوادث والتصرفات والمواقف داخل البنية القيمية، للجسم المهني للمحامين، عن تطور سلبي، ينذر بأوخم العواقب، ذلك أنه في المرحلة الحاضرة من تاريخ المهنة، برزت ظواهر غريبة، لم تشهدها المحاماة طيلة عمرها المديد، حيث ترسخت قيم وأعراف في الممارسة، محروسة ومحصنة، بأخلاق في التعامل بين المحامين وبين الأغيار، وبهذه الصفات والخصائص، تعامل الناس مع المحامي، باعتباره شخصاً غير عادي، يلجأ إليه كالطبيب في أحرج لحظات الإنسان، ليقينه واعتقاده، في توفر من يحمل، صفة المحامي، هو بالضرورة أو هكذا يجب أن يكون شخصاً مؤهلاًلإغاثة الملهوف، وبذل أعلى درجات التضحية والصدق والوفاء، بغاية إيصال من تعرض حقه للجحود، أو حريته وحياته للخطر والانكار إلى غايته، ولا يبالي بما ستكلفه هذه المسؤولية، من أخطار أو عواقب مهما كانت درجتها، أو كيف ما كانت قوة مصدرها أو مكانته.
لكن هذا التاريخ المجيد، وهذا الصرح الشامخ، والمكانة المعنوية الرفيعة لمهنة المحاماة، التي بناها السلف، بتضحيات ومواقف، والتزامات إنسانية وخلقية، بدأت تتهاوى، بتصرفات قد تهدد المهنة في جوهرها إذا لم يقع تداركهاهلكت.
إن من علامات الخطر المنذر، والذي يؤكد التخوف المشار إليه أعلاه، هو عجز الكيان المهني بكامله، بما في ذلك المحامون بصفة عامة، والمجالس بصفة خاصة والنقباء بصفة أخص، حيث يتواصل العجز، عن مواجهة هذا الانحدار، ذلك أنه بعدما كانت المهنة محصنة، بأعرافها وتقاليدها التي كانت سابقة حتى على القوانين المنظمة لها، إذ أن القوانين ماجاءت إلا لترسيخ تلك القيم والتقاليد والأعراف، التي كانت مرجعاً لبعض القضايا المهنية، سواء بين المحامين، أو بينهم وبين الأغيار، وتضطلع بهذه المسؤولية مجالس الهيآت بقيادة النقباء، وهي الجهة الوحيدة المخولة لتدبير الشؤون المهنية، بما تملكه من شرعية الرأي العام المهني الذي خولها ديمقراطياً هذه السلطة المعنوية، حيث لا يبقى هناك مجال لأية جهة من أي مستوى كان، للتسلل، أو اختراق الجسم المهني، لتوسيع رقعة الخلاف أو الشقاق حتى، إن وقع، لأن للمهنة رباً يحميها، بعقول كبيرة، وفكر رشيد .
لكن، وللأسف الشديد، فإن مقومات هذا الصرح المعنوي والعملي، الذي شيده السلف المهني، عبر السنين، والصورة الناصعة والمكانة السامية التي بنتها المهنة، وجسدها رموزها نقباؤها وقيدوميها، بسلوكهم القويم وتضحياتهم ووفائهم للقسم، هذه الصورة بدأت تتآكل، وتتخلل بياضها الناصع بقع سوداء، جراء ممارسات وسلوك بعض المحامين بصفة عامة، وأعضاء مجالس بصفة خاصة، ونقباء بصفة أخص، بحيث إن حروبا أهلية، تجرى داخل المؤسسات المهنية للمحامين، ومتابعات قضائية، يضاف إلى ذلك ما يجرى من حرب أهلية داخل هيئات المحامين بمناسبات تجديد المسؤوليات المهنية، حيث انقسم الرأي العام المهني إلى جبهات، حسب المرشحين كل واحدة تدين أختها، مما ينذربتطورات خطيرة لا قدر الله، وهي وضعية تدمي قلب كل من له نسب مهني، أو حقوقي لمهنة المحاماة، وبصرف النظر عمن هو خاطئ أو هو على صواب، فأنا لست في موقع أو مكانة، أن أحدد المسؤولية، وغير مخول بذلك، لكن ما يشفع لي في هذا (( التدخل )) هو صفتي وعقيدتي المهنية، حيث أتقاسم الإحساس بالمسؤولية، إزاء من أتقاسم معهم الهموم والانشغالات المهنية، وأنني معني سلباً أوإيجاباً، بما يقع داخل الأسرة المهنية لأني من أبنائها .
هذا الواقع الأليم يتطور، لما هو أخطر، ويهدد المهنة في كيانها الحقوقي والأخلاقي، والكل مساهم شارد كأنه ينتظر من الغير أن يحارب بدلهم، في حين، أنهم مطالبون بتغيير هذه السلبية والهوان النفسي، والخضوع الدليل، والفرقة المميتة، ونبذ الفرقة والانقسام والتشردم، ونبذ الأحقاد الدفينة، والحسابات الشخصية التي تفرقهم، والتجمع في عائلة واحدة وقيادة واحدة وصف واحد، ليس لإعلان الحرب، ولكن ليسمعوا الدولة صوتا واحداً متحدا في مواقف واحدة متحدية، حتى لا نصبح في حالة موتى، في حاجة إلى بعث – لا قدر الله – ونيام في حاجة إلى يقظة، وأشتات متفرقة في حاجة إلى قيادة، وفاعل ينفخ في رمادنا، يخرج من مخاض المعاناة، ورحلة العودة إلى الذات، لأننا وصلنا لآخر الشوط، نكون أو لا نكون، نثبت صلاحيتنا، ونؤكد وجودنا، أو نذهب إلى زوال معنوي، لقد بلغنا الحائط، وعلينا أن ندخل المعركة النهائية مع الذات، لا يظن أحد أن المعركة مع الآخر وحده فقط، بل المواجهة يجب أن تبدأ مع النفس، والصراع مع العدو القابع في ذواتنا أولا، «والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم … «.
إن البعض داخلنا، يمارس البطولة بلا بطولة، ويطلب الزعامة بدون ((شهادة)) كفاءة، في حين، أن المحن الحالية التي تمر منها المحاماة – يضيق المقام لعرضها – جديرة بظهور قادة أنجبتهم المحن، وصقلتهم ظروف الزمن المهني، وأمواجه وشعابه المادية والمعنوية، هذا، بدل التهافت على مواقع المسؤولية بوسائل يعز المقام والمناسبة عن ذكرها.
إن كلمتي هذه، هي مجرد نقل شعور الأسى والأسف، على ما يجرى، ويؤشر على أن هناك شيئا ما، يحدث داخل المحاماة، على الجميع أن يستحضر عواقبه وامتداداته، ويعمل ما بوسعه العمل من جهد، بغاية التشخيص الكامل للكشف عن مكامن الخلل، ومحاولة وضع العلاج وتدارك الداء، قبل فوات الأوان، لأن ما ذكر من وقائع ونزاعات – حول منصب النقيب خاصة – ينذر بأن الأمور مرشحة، للتدهور على الصعيد الوطني والمحلي، والغريب أن هذا يحدث في مرحلة تشهد تغيرات عميقة، داخل منظومة العدالة، التي تعتبر المحاماة، أحد أركانها، الأمر الذي يفرض أن تكون المؤسسات المهنية، في أوج قوتها والتحام صفوفها، معووراء قياداتها المهنية المحلية والوطنية، مما يؤكد ثقة الرأي العام، والمؤسسات الرسمية، في دور المحامي، في المساهمة الفعلية في تقوية سلطة القضاء، وتعزيز العدل بين الناس، وتلك لعمري هي رسالة المحامي النبيلة، التي نتمنى أن تظل كذلك.
(*) محامي بهيئة الدار البيضاء


الكاتب : جلال الطاهر(*)

  

بتاريخ : 02/12/2023