مسارات من حياة الشعيبية طلال.. 8- عقدة التعلم

لعل الكتابة عن سيرة فنانة ذات ريادة زمنية وريادة فنية،اختلف الناس في أمرها، لشخصها وشخصيتها وإنجازاتها التي ذاع صيتها في الآفاق، حتى أصبحت المعارض العامة الدولية تخطب ودها وتتمنى أن تحتضن لوحاتها العجيبة ، تقتضي اعتماد مصادر ومراجع وطنية أو دولية موثوق بها، غير أنه، للأمانة، لا نتوفر سوى على مصدر واحد ووحيد غير مستقل وغير محايد، ألا وهو ابنها الفنان الحسين طلال، الذي لا يقدم إلا ما يلوكه مرارا وتكرارا عن سيرة الشعيبية لوسائل الإعلام أو بعض الباحثين، من غير إضافات مميزة أو إضاءات مثيرة تسعف في الوقوف على هويتها، منجزها التشكيلي وخصوصياتها الجمالية وإسهاماتها في الحركة التشكيلية العالمية.
سنحاول في هاته الحلقات تسليط الضوء-قدر الإمكان- على مسار الشعيبية الذاكرة الفردية، الذاكرة الجمعية ترحما عليها، واعترافا بأياديها البيضاء في سبيل جعل راية المغرب خفاقة في المحافل العالمية، وإسهاماتها في إثراء المكتبة الفنية الوطنية والدولية.

تعود الشعيبية مساء إلى ابنها الحسين. تتبادل معه أطراف الحديث ثم تقوم لإعداد الأكل، وبينما هما يتحلقان حول مائدة خشبية صغيرة على ضوء شمعة خافت متراقص، تحكي له – بتلهف وتشويق- عن العز الذي تراه نهارَها بأمّ عينيها ، عن العالم الحالم الجميل، حيث اللوحات الزيتية تباع بأموال طائلة.
عندما آنستْ الشعيبية في الحسين اقتناعا وميولا واهتماما بالغا بمجال الرسم والتشكيل، وفرت له أسباب الدرس والتحصيل، وفي الحادية عشرة من العمر، وجد ذاته في الرسم بالبيت والمدرسة.وكانت أستاذته الفرنسية لمادة الرسم لا تكف عن حثه باستمرار على مزيد من الرسم، وتوجيهه بشكل صحيح..و يكبر الشاب الحسين رساما أكاديميا متعلما مثقفا، يقطع مع مجتمع الفقروالجهل والأمية، ولا ينتابه أي إحساس بنقص.
لم تنس الشعيبية مركّب النقص الذي ترسّب في لاشعورها مذ طفولتها، حيث لم تتعلم بالكُتّاب القرآني/المسيد ولا بمدرسة أكاديمية ولا بمعهد ولا حتى من أحد. كان يُنادَى عليها في صغرها “المهبولة/الهبيلة”، تهيم بأرض اشتوكة لا تلوي على شيء. لم تتعلم القراءة والكتابة على عهدها، نظرا للفقر والعقلية المحافظة بالوسط الاجتماعي، حيث المرأة قابعة بين أربعة جدران في المنزل مستذلة، معطلة الفكر واليد والأحاسيس، لا يُترك لها سوى هامشٍ ضيق للإنجاب والطبخ والغسيل..
لازمت عقدةُ التعلم الشعيبيةَ أينما حلت وارتحلت.فهي لم تلج عالم الرسم والتشكيل عن دراسة وتحصيل وأُسسٍ أكاديمية، ولكنّما عن موهبة وعصامية وتدرّج في إخراج طاقتها الإبداعية الكامنة، وترجمة ذاكرتها البصرية إلى منجزات تعبيرية تلقائية.
كانت الشعيبية في حوارات معها، تُعقِّب: “وانت أشنو قلت آ القاري()ة. كما لا تفارقها لازمتُها عند كل توضيح أو استفسار”وياعنو” بدل يعني.. لم تتخلص من عقدة التعلم حتى ولو أنها ركبت تحديات عاتية جعلت منها سيدة من سيدات المجتمع. ومع سماعها أن من لم يتعلم في الصغر هان في الكبر، وأن التعلم في الصغر كالنقش على الحجر، وأن التعلم في الكبر كالنقش على الماء، إلا أن ذلك لم يثبّط عزيمتها ولم يحد من طموحها، فقامت تستأجر معلما لتلقينها الفرنسية مرتين في الأسبوع لكنْ عبثا.والطريف أن المعلم نسي الفرنسية وتَعلم هو عاميتها ولكنتَها البدوية.
ويُروى عن الشعيبية أنها لم تكن تتأخر في تقديم المساعدة المادية من واجبات شهرية ومستلزمات لأبناء أهلها من أجل التعلم، حتى لايكون لديهم في يوم من الأيام شعور بالنقص.
كان لابد للشعيبية أن تتعلم، أن تمتلك اللغة الفرنسية تحديدا.ففي خدمتها في البيوت الفرنسية، كانت تجد نفسها عاجزة عن التحدث بها. وحتى بعد أن دانت لها الدنيا، وجاءتها الشهرة والاعتراف بمنجزاتها، كانت أعجز من أن تخلق جسر التواصل مع زوار معارضها.فكان مطروحا عليها إذن وبشدة، أن تتعلم اللغة الفرنسية لأنها لغة عصرها الراقية، لتحقق تواصلا سليما يُسعف في إيصال أفكارها ومشاعرها الدفينة للآخر،ومعرفة واستيعاب ما يعبر عنه هذا الأخير تُجاهها وحُيال منجزها التعبيري.
ومما يسعد الشعيبية، أن موران غارسيا ذات الصيت الذائع في عالم الكتابة والتأليف والتصوير، تقدمت إليها ذات يوم، تتمنى عليها أن تضع لكِتاب لها تحت عنوان”الحناء نبتة الجنة”، مقدمةً من بنات أفكارها وأسلوبها العفوي،فمكّنتها من هذا الشرف، الذي في حد ذاته يحررها من عقدة الأمية.
وكتبت فاطمة المرنيسي وهي عالمة اجتماع عن الشعيبية قائلة في ما يشبه الرسالة، التي لن تقرأها أبداً الشعيبية: “..عندما سألتك ذات يوم: “لماذا تحدثينني دوما عن التعليم؟ إنك تتدبرين أمرك أفضل من العديد من أساتذة الجامعة…”، جاء جوابك مضيئا أكثر مما يستطيعه بحث طويل: “ألح على التعليم لأن الأمية جرح. ينبغي إعداد مغرب لا تكون فيه أية امرأة جريحة. فحتى عندما نلاقي النجاح، فإن هذا الجرح لا يندمل أبدا”.


الكاتب : عزيز الحلاج

  

بتاريخ : 18/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *