مسار تعديل مدونة الأسرة، صراع الثابت والمتحول (1)

بدأ العمل من أجل تعديل مدونة الأسرة في إطار ورش قانوني من مراحل متعددة، لاشك أن انطلاقته كانت خطاب العرش لسنة 2022، ثم تشكيل لجنة للإشراف، ثم الرسالة الملكية الموجهة لرئيس الحكومة حول منهجية التعديل ومضامينه.
وأن مقاربة التعديل وآفاقه ، منطلقاته وحدوده، يقتضي وضعه في مساره التاريخي منذ وضع قانون الأحوال الشخصية، ,وصولا إلى مدونة الأسرة الحالية وما أظهره تطبيقها من عيوب واختلالات، مرورا في هذا المسار الطويل بكثير من التحول الذي عرفته الأسرة المغربية كجزء من التحول الذي عرفته بنية المجتمع المغربي ككل عبر عقود من الزمن. وظل المشرع يحاول مواكبة هذا التحول بالنص القانوني الذي لم يكن سهلا أبدا.
في هذه الدراسة نحاول أن نعرض لهذا المسار الاجتماعي والقانوني لوضع الأسرة المغربية خلال حوالي سبعة عقود من الزمن.

 

 

عرفت الأسرة المغربية في العقود الأخيرة تحولات عميقة في بنيتها، إذ تحولت من أسرة ممتدة إلى أسرة نووية في أغلب الحالات. وجاء ذلك نتيجة لعوامل كثيرة أهمها ولوج المرأة إلى التعليم بأعداد كبيرة، ثم خروجها إلى العمل خارج البيت، مما انعكس على وضعية الأسرة ككل، وعلى وضعية المرأة بشكل خاص التي ارتفع وعيها واستفادت من التحولات في دول أخرى.
وكانت النتيجة المباشرة لهذه التحولات مطالبة المرأة بتغيير القوانين التي تنظم حياتها وخاصة تلك المتعلقة بالأحوال الشخصية، والتي لم تعد تتماشى مع وضعيتها الجديدة كونها وضعت في سياق تاريخي واجتماعي آخر.
كل هذه التحولات التي ترجمت إلى مطالب عكسها النقاش الوطني الذي أثارته الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، وهو النقاش الذي سيتركز على تغيير قانون الأحوال الشخصية.
وقد كان هذا النقاش لحظة تاريخية مهمة وناذرة تفاعلت فيها مؤسسات رسمية وجمعيات ومثقفون بطريقة ديمقراطية، وعبر كل عن رأيه بطريقة سلمية. وانتهى الأمر إلى إحداث التعديلات على قانون الأحوال الشخصية. لكن تبين من خلال النقاش أن الخلاف وسط المجتمع عميق بين تيارين: تيار حداثي يعتمد المرجعية الدولية لحقوق الإنسان دون التخلي عن مرجعية الشريعة، وتيار محافظ يعتمد مرجعية له الشريعة الإسلامية، ويعتبر اتجاهه الغالب أن مرجعية حقوق الإنسان غريبة على المجتمع المغربي وقيمه وهدفها تخريبه. وعلى أساس هذا الاختلاف في المرجعية حصل تقاطب سياسي وسط المجتمع وسيستمر كذلك.
المبحث الأول: تغير بنية الأسرة وانعكاسه على وضع المرأة
كانت الأسرة تاريخيا في المغرب تقوم على الزواج الشرعي الذي يترجم توزيع الأدوار بين الزوج باعتباره رب الأسرة والمسؤول عنها على كل المستويات، وبين المرأة التي تقوم بأشغال البيت دون أن يكون لها أية حقوق مدنية إلا ما منحته لها الشريعة الإسلامية من خلال الأحكام التي جاءت في المذاهب الفقهية وخاصة الفقه المالكي. لكن إقبال المرأة على العلم والعمل خارج البيت خلق تحولا في الأدوار داخل الأسرة، وامتد ذلك إلى المجتمع ككل بعد أن أصبح للمرأة صوت متمثل في الجمعيات النسائية التي طالبت بتغيير القوانين حتى تعكس الأوضاع الجديدة للمرأة، وخاصة قانون الأحوال الشخصية في اتجاه اعتماد مرجعيات أخرى إلى جانب الفقه الإسلامي وتحديدا المرجعية الدولية لحقوق الإنسان.
المطلب الأول: تغير بنية الأسرة
بالرغم من ان دستور 2011 استمر في اعتبار الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع (الفصل32 من الدستور)، وهو نفس التصور الذي ظل سائدا في المجتمع المغربي منذ عقود من الزمن، إلا أن الأسرة في بنيتها الداخلية وأدوار كل من الرجل والمرأة قد عرفت تغيرا كبيرا، بل أن الهدف من الزواج نفسه عرف بعض التحول، إذ لم يعد تكثير سواد الأمة هو هدفه الرئيسي.
ليس هناك تعريف موحد للأسرة، بل أن معناها يختلف باختلاف المجال الذي نتحدث فيه، وأيضا باختلاف الأدوار التي تعطى للأسرة. وهكذا فهي تختلف في معناها باختلاف الديانات والمجتمعات وما تسنده من أدوار للأسرة حسب قوانينها ونظمها الاجتماعية والتربوية وحتى السياسية. كما تختلف أيضا في منظومة حقوق الإنسان حيث المرجعيات ليست هي نفسها في الديانات والمعتقدات. لذلك كله لا تتوحد القواميس والموسوعات على مفهوم موحد للأسرة
هكذا جاء في معجم «لاروس» الصغير إن «الأسرة هي الأب والأم والأولاد»
وهذا التعريف يمثل في الحقيقة الحد الأدنى لمكونات الأسرة الموجود في كل المجتمعات، وهو تعريف يكتفي بتحديد مكونات الأسرة وهو مفهوم أصبح متجاوزا في العصر الحالي أو على الأقل ليس دائما صحيحا.
إذ الأسرة لم تعد تتكون دائما من المكونات السابقة بل قد لا تقوم الأسرة أساسا من أجل الإنجاب، كما هو الحال في التعريفات التقليدية حيث أن هدف الزواج هو إقامة أسرة وإنجاب الأولاد، بل قد يتعاقد الزوجان على خيارات أخرى كعدم الإنجاب مثلا. بل قد تتكون الأسرة في المجتمعات بين أشخاص بناء على روابط اجتماعية مدنية وليس على زواج شرعي. وقد سمحت بعض القوانين لبعض أنواع العلاقات بالتبني مما غير مفهوم الأطفال نفسه الذي لم يعد هو المولود من رحم الأم من زواج شرعي. كما أنه في حالة الطلاق وحضانة الأم أو الأب للأطفال يصبح معنى الأسرة مختلف عن التركيبة التي ذكرها تعريف معجم «لاروس».
كما أنه في أحيان أخرى لا يكون الولد من رحم الأم ولا حتى متبنى بل بطريقة أخرى كأطفال الأنابيب أو الأطفال من جينات لا يعرف مصدرها.
لذلك كله أصبح التعريف السابق متجاوزا وظهرت تعريفات في القواميس اللاحقة تأخذ بعين الاعتبار الأوضاع الجديدة أو الأشكال الجديدة للأسرة.
وهكذا جاء في موسوعة «لاروس الكبرى» أن الأسرة مجموعة شخصين أو أكثر بينهما علاقة قرابة سواء ضاقت أو اتسعت»
وهذا التعريف يأخذ بعين الاعتبار التطورات المتلاحقة الطارئة على الأسرة خاصة على مستوى نوع الروابط بين أفرادها وبنياتها ومضامينها بيولوجيا أو ثقافيا.
أما من حيث الوظيفة. فإن الديانات الثلاث (اليهودية والمسيحية والاسلام) تتفق على أن الأسرة خاضعة لقيود وروابط دينية، وان الدين حدد وظائف الأسرة وروابطها وحددت الديانات أن الإنجاب هو الوظيفة الأساسية للأسرة، وان مسؤوليتها تربية هؤلاء الأولاد على أسس دينية. وان الزواج شعيرة دينية لا تقام الأسرة خارجه، وان الهدف من كل ذلك استمرار خلافة الإنسان في الأرض. وهي أمانة لاستمرار الجنس البشري على الأرض وأعمارها طبقا لما جاءت به الديانات .
وكل هذا في إطار الترابط بين أفراد الأسرة والتآزر بينهم، لذلك فإن كلمة أسرة في اللغة العربية أصلها من فعل أسر الذي يعني آزر أي ناصر وقوى. والأسرة هي الدرع الحصينة وهو نفس المعنى في لسان العرب لابن منظور حيث الأسرة من « الأسراي الشد والعصب، وأسرة الرجل عشيرته ورهطه الأدنون لأنه يتقوى بهم»
والأسرة بهذا المعنى عند العرب هي أوسع منها عند الغرب بالمعنى الذي جاء في «لاروس الصغير» حيث يقتصر على الأفراد المذكورين والذين يعيشون عادة في البيت الواحد، في حين ان المفهوم العربي للعائلة يتسع ليشمل كل من تربطهم صلة القرابة سواء بالدم او بالمصاهرة وسواء كانوا يعيشون داخل نفس البيت أم في بيوت أخرى قريبة أو بعيدة.
وكما للأديان تعريفات للأسرة، فلعلماء الاجتماع والفلاسفة مفاهيمهم للأسرة
أما القانون الدولي فهو لم يتدخل في تنظيم أحكام الأسرة، لأن مجاله القانون الداخلي لكل دولة ولكل مجتمع. لكن مع ذلك أكد على اعتبارها الخلية الأساسية للمجتمع وأنها واجبة الحماية لبقائها واستمرارها. جاء ذلك في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ونفس الحماية ضمنها للأسرة العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لسنة 1966 وأكد تلك الحماية العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية لسنة 1966 ويتضح انه كيفما كانت التعريفات أو مصادرها أو مرجعياتها أن ما يمكن استنتاجه من جملة تلك التعريفات رغم اختلافها فيما بينها أنها تتفق على دور الأسرة – كيفما كان شكلها وصورتها- في إنتاج وإعادة إنتاج القيم، كونها مسؤولة عن الانتاج البيولوجي للإنسان (الانجاب) وبتزويده بقيمها (التربية) من خلال عملية التنشئة الاجتماعية، وهي بذلك تتجاوز كثيرا من المؤسسات الأخرى التي تعيد إنتاج القيم كذلك مثل المدرسة والإعلام والمؤسسات الدينية والثقافية. ومعلوم أن الأسرة المغربية في إنتاجها وإعادة إنتاجها للقيم عرفت تحولات كبيرة على مستوى بنياتها، وأن هذا التحول على مستوى البنيات كان له تأثير على مستوى التحول القيمي.
معلوم ان الدستور المغربي الحالي نص في الفصل32 على ان الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع، وان الدولة تعمل على ضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية للأسرة بمقتضى القانون، بما يضمن وحدتها واستقرارها والمحافظة عليها، كما تسعى الدولة لتوفير الحماية القانونية والاختبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال بكيفية متساوية بصرف النظر عن وضعيتهم العائلية
وأن المشرع الدستوري المغربي أضفى حمايته المذكورة على الأسرة بغض النظر عن أنماط الأسرة أو بنياتها. ذلك أن المغرب يتميز بتعدد النماذج فيما يخص العلاقات الأسرية، ويصعب الحديث عن نمط أسري واحد. وبالرغم من أن الأنتروبولجيين يتحدثون عادة عن استمرار نمط العائلة التقليدية الممتدة في المغرب، إلا أنه لم يعد النمط السائد ولو من الناحية الإحصائية، ونسبة الأسر التي يمكن أن ينطبق عليها فعلا اسم العائلة الممتدة نسبة ضئيلة وهي في انخفاض مستمر مع مرور الزمن.
وقد تواجدت إلى جانب بل محل نمط الأسرة الممتدة في غالب الأحيان أنماط أخرى لم تكن موجودة، من قبل نمط الأسرة النووية التي تتكون فحسب من الأم والأب والأطفال غير المتزوجين. أو نمط الأسرة المركبة أو المتعددة الأنوية، وهي عبارة عن مجموعة من الأسر النووية، لكل واحدة استقلالها الذاتي رغم ارتباطها وتعاملها مع بعضها البعض في الحياة اليومية أو في المناسبات العائلية أو الوطنية أو الدينية، دون أن تكون هناك سلطة مركزية عليها جميعا كسلطة الأب أو الجد. هي ترتبط مع بعضها وتتواصل على أساس العلاقات الإنسانية والمصلحية لكن مع احتفاظها باستقلالها وبما لا يسمح بوصفها بالعائلة الممتدة، حتى ولو كانت هذه العائلة مجموعة من الإخوة.
أيضا نتحدث عن نمط الأسرة غير المكتملة والتي يتزايد عددها هي أيضا، وهي الأسرة المكونة من المطلقين أو المطلقات أو الأرامل أو أسر العمال المهاجرين أو الأشخاص الذين فضلوا عدم الزواج والعيش بمفردهم لأسباب شخصية أو لأسباب تتعلق بالعمل والبعد عن العائلة.
وفي عدد من هذه الأسر غير المكتملة خاصة في حالة المطلقات أو الأرامل أو المهاجرين أصبحت فيها النساء تقوم بأدوار جديدة متعلقة بمسؤولية العائلة كاملة سواء داخل البيت أو في العلاقة مع العالم الخارجي.
هكذا إذن يتضح أن الأنماط الأسرية بالمغرب متعددة وعرفت تطورات وتغيرات فرضها تطور المجتمع، وأن هذه التغيرات بقدر ما أدت إلى تغيير في أنماط الأسرة نفسها بين الرجل والمرأة، فإنها أدت من ناحية أخرى إلى تحول على مستوى القيم.
من التغيرات الأساسية الأخرى التي حدثت للأسرة المغربية وأدت إلى تغيرات على مستوى القيم، التحول المكاني، مع الإشارة إلى ما يعنيه المكان في ارتباط الشخص بمحيطه وثقافته وتاريخه وعاداته وتقاليده مما يؤدي معه تغيير المكان إلى التأثير في كل العناصر المذكورة وذلك بالنظر إلى البعد الثقافي والاجتماعي للمكان.
ويقصد عادة بالتحول المكاني الانتقال من التنظيم القروي للمكان إلى التنظيم المديني، كما يعني استمرارية تحول البنية الأسرية من خلال الاحتكاك اليومي بالمكان المديني من خلال دلالاته الرمزية المتعددة. ذلك أن هناك الانتقال الفعلي من مكان إلى آخر ثم التحول المستمر داخل نفس المكان بفعل العيش فيه وترسيخه لعلاقات معينة داخل الأسرة.
ولعل أبرز تحول عرفه المجتمع المغربي على هذا المستوى المكاني هو التحول نحو نمط عيش مديني. والتخلي عن النمط القروي، وأهم ظاهرة ساهمت في توسع هذا النموذج هو الهجرة القروية نحو المدن.
وهكذا عرفت ظاهرة الهجرة القروية نحو المدن انتشارا كبيرا ومتصاعدا منذ مطلع القرن الواحد والعشرين إذ في بداية القرن المنصرم كان المغرب يعرف تمدينا ضعيفا لا يتجاوز18 % من السكان. وقد قدر إحصاء 1960 نسبة التمدين بحوالي29 %، وسنة 1971 بلغت تلك النسبة 35 %، ثم ارتفعت إلى نسبة 42،7 % سنة 1982 وسنة 2004 بلغت 55،1 %، وسنة 2014 وصلت النسبة إلى60،3 % نتيجة لعاملين: النمو الطبيعي لسكان الحواضر من جهة واستمرار الهجرة القروية من جهة أخرى، بل أكثر من ذلك أن هناك مراكز كانت قروية تحولت مع الزمن إلى مراكز حضرية .
وإثر هذا النمو تحول عدد الساكنة الحضرية من3،4 مليون نسمة سنة 1960 إلى 16،5 مليون نسمة سنة 2004 وسنة 2014 انتقل عدد الساكنة الحضرية إلى 20مليون و432 ألف نسمة بمعدل نمو ديمغرافي سنوي قدره2،2 % مقابل 2،1 في العشرية السابقة.
ونتيجة التطورات السابقة على توزيع السكان بين المدن والقرى بالمغرب، تأثرت الأسرة المغربية بذلك، وأصبحت موزعة على الفضائيين بنسب مختلفة، فإلى حدود 1982 كانت القرية تأوي53،4 % من الأسر المغربية أي أكثر من النصف، لكن سرعان ما انخفضت هذه النسبة إلى 48،8 % سنة 1994.
ولا بد من الإشارة إلى أن ظاهرة الهجرة لم تمس الرجال فقط بل تشمل النساء أيضا. بل انه خلال احصاء1982 تبين أن الهجرة مست النساء أكثر من الرجال. فمن بين 622 ألف مهاجر سجلت 328 ألف امرأة أي أكثر من خمس نساء على عشرة مهاجرين، ولعل هذه الظاهرة يمكن تفسيرها بالتحول المزدوج الحاصل في الوسط الحضري الجالب للنساء القرويات، والتحول الحاصل لدى المرأة والدافع لها للبحث عن عمل خارج المنزل وخارج الحقل. فولوج المرأة أكثر فأكثر ميدان العمل خارج البيت قد ولد نموا متزايدا لعمل العاملات المنزليات من أصول قروية. كذلك الأمر بالنسبة لكثرة المصانع والمقاولات الصغرى والمتوسطة ذات المستوى التكنولوجي المحدود التي تحتاج يدا عاملة عادية، فتجد ضالتها في النساء والفتيات القادمات من مناطق قروية. كما بين البحث حول الهجرة الداخلية والذي أجري سنة1991 واهتم بتدفق هجرة النساء البالغات 15 سنة فأكثر خلال عشر سنوات التي سبقت البحث، قد أكدت نتائجه أن 6 من10 من المهاجرين هن نساء.
إذن من خلال كل ما سبق يتبين من رصد التحولات الاجتماعية أن المجتمع المغربي يعرف تحولات اجتماعية عميقة من خلال عملية التمدين ونمط العيش الذي تحمله. كل ذلك في ارتباط مع التحولات التي تعرفها الأسرة المغربية وخاصة الأدوار داخلها، وتحديدا توزيع هذه الأدوار بين الرجل والمرأة، أمام تحمل المرأة لمسؤوليات أكبر نتج عن خروجها لفضاءات عمل أخرى غير التي كانت تعمل بها تحديدا المنزل والحقل بالنسبة للمرأة القروية. وكان هذا التحول مصحوبا بالتحول في بنية الأسرة وخاصة تحولها بنسبة كبيرة من أسرة ممتدة (عائلة) إلى أسرة نووية (مكونة من الأبوين أو احدهما وابن أو عدة أبناء غير متزوجين) حيث أضحى هذا الصنف من الأسر يشكل 60 % من مجموع الأسر المغربية.
وإذا كانت هذه التحولات الأسرية قد أترث في طبيعة بنيات هذه الأسرة وأنماطها (توسع نمط الأسرة النووية على حساب انكماش نمط الأسرة الممتدة)، فإن الأمر كان له تأثير على العلاقات داخل الأسرة خاصة على مستوى السلطة، إذ أنه بعدما كانت السلطة داخل الأسرة متمركزة وتمارس بشكل مطلق من طرف الأب (أو الجد في بعض الحالات)، فإنه بعد التحولات الأسرية، ونظرا لما أصبحت تتمتع به المرأة من مكانة اقتصادية أساسا بعد خروجها للعمل، تحولت السلطة تدريجيا لتصبح مشتركة بين الرجل والمرأة. الأمر الذي أصبح له تأثير على كثير من الاختيارات والقرارات التي تهم الأسرة. ولاشك أن هذا المنحى يتصاعد مع مزيد من التمكين للنساء في المجتمع. كل هذا يؤدي إلى مزيد من التحول القيمي داخل الأسرة وتزيد من حدة الصراع القائم اليوم بين قيم حديثة وقيم تقليدية.
ولا نبالغ إذا قلنا بأن التغييرات التي عرفتها الأسرة المغربية منذ منتصف القرن العشرين،والتي تخص تحديدا ولوج المرأة إلى المدرسة ثم خروجها للعمل، وموجة الهجرة من البوادي إلى المدينة، من اهم التحولات التي عرفها المجتمع المغربي في التاريخ المعاصر. إذ أدت هذه التحولات إلى تغييرات حقيقية كان لها تأثير كبير على المجتمع المغربي ككل بين مدنه وقراه، وبين الرجل والمرأة، وعلى القيم السائدة، وعلى مستوى التأهيل لمشاركة المجتمع ككل في تحقيق التنمية برجاله ونسائه، عوض بقاء نصفه معطلا.


الكاتب : الدكتور البصراوي علال نقيب هيئة المحامين بخريبكة

  

بتاريخ : 28/10/2023