من رسائل عبد الكبير الخطيبي إلى غيثة الخياط : الرسالة 56: قلق بشأن الوضع الراهن للتحليل النفسي

 

«مراسلة مفتوحة» سلسلة منتظمة من الرسائل المتبادلة بين عبد الكبير الخطيبي وغيثة الخياط، طيلة أربع سنوات (1999-1995). انضبت المراسلات لموضوعة «التحاب» أو الانجذاب كما يفضل الخطيبي ترجمتها، وانطلقت من أرضية محددة «كتاب التحاب» Le livre de L’Aimance لعبد الكبير الخطيبي.
كتاب «مراسلة مفتوحة» قدره في عنوانه، الانفتاح والانزياح، فأثناء المبادلات التراسلية، وقع حدث خطير جدا، في الحياة الأسرية للكاتبة غيثة الخياط، وهو وفاة ابنتها الوحيدة. وبدل أن يتوقف المكتوب L’écrit، انفتح على أبعاد أخرى، وانزاح إلى موضوعات غير مدرجة قي الاتفاق المشترك والعقد الضمني بين الكاتبين. «إنه عقد ضمني، بشكل من الأشكال، يقول الخطيبي، تركناه مفتوحا على كل الاحتمالات». انتصرت الكتابة على الموت. وحولته الكاتبة إلى موضوع للكتابة ومادة للمبادلة التراسلية، كما هو واضح في رسائل للخياط ترثي فيها ابنتها الوحيدة «عيني» وتتفجع على أمومتها المفقودة وتنتقد فيها الممارسة الطبية، وهي الطبيبة في اختصاصات متعددة.
حضرت تيمات وموضوعات لم تكن مبرمجة من قبل: الفن، العداوة، السياسة، الزمن، السفر، الألم، العلم، الطب…إلخ.
صحيح أن الخطيبي رجل حوار، حوار منسق ومنظم سواء مع نظرائه أو قرائه أو طلبته. يتعلم حتى من طلبته. يمدد الحوار والمحادثة بتجربة الكتابة ويعده موردا للإغناء والتثمير يقول: «ففي بعض الأحيان يحدث لي أن أكتب أشياء بعد محادثة، كما لو أنني أمدد بالكتابة الحوار. وفي أحيان أخرى يمنحني الآخرون أفكارا، لأن في التبادل هناك اللغة. والحالة هذه، فاللغة تعيش في الجسد، وفيما أسميه الذكاء الحساس للجسدl’intelligence sensible du corps، ويترجم بالانفعالات، والأحاسيس، وطريقة الكلام، والأسلوب، كل ذلك مصفى بواسطة الذكاء الحساس للجسد؛ وبذلك فإننا نراه في طريقة الكلام، وفي طريقة الكتابة. فالحوار مؤصَّل في الحياة، وفي اليومي.»
لا تقرأ مراسلات الخطيبي والخياط خارج السياق العام للمسألة النسائية، أي المرافعة عن قضايا المرأة ومناصرتها، وإن كان هذا الكتاب ليس الوحيد الذي يتحدث فيه الخطيبي عن المرأة، فتحدث عنها في أعمال أخرى فكرية وإبداعية من قبيل: الاسم العربي الجريح، حج فنان عاشق، كتاب الدم… علاوة على التشجيع، الذي يخص به النساء، بتقديم أعمالهن، وإشراكهن في برامج إعلامية، كما لا تخفى نسبة الكثافة في كتابات النساء عن أعماله!
يقول الخطيبي: «هناك بطبيعة الحال إرادتي في الدفاع عن المرأة وعن صورتها وما تمثله، والقول بأننا يُمكن أن نتحاور. ومن جهة أخرى كنت دائما أتساءل عن مكانتي فيما يخص علاقتي بالمرأة عموما، أو بأي امرأة على الخصوص. ولابد أن أجيب عن هذا السؤال كل يوم. عندما تكون هناك شفرة للتواصل، سواء أكانت مع الرجل أم مع المرأة، إذ ذاك يُمكننا جعل الحوار يتقدم في المجتمع. وهذا فيما يبدو حيوي لأن هناك إما الصمت أو استغلال للمرأة، لأنه عندما نعرف هشاشتها في الصورة التي تكونها عن نفسها يُمكننا دائما أن نجعلها قابلة للعطب. إذن أولئك الذين يتلاعبون بعلاقتهم مع النساء يتحاشون الحوار؛ فهم يستخدمون هذا الضعف لمصالحهم الخاصة».

 

 

غيثة،
ما أبعث به إليك، ليس طلسما ولا رسالة سحرية أو لاهوتية. ولا حتى تأملا في دلالة التأريخ المزدوج. هو بالأحرى تخييل، ثم لا تنسي أن مدينة الرباط هي مسقط رأسك!
كم وقت مر منذ رسالتك الأخيرة! أعتزم الكتابة إليك من نيويورك، لكن هذه المدينة النشيطة والحركية، بشكل لا يصدق، تستدعي، من المسافر إليها، تعبئة لطاقاته، في وقت مضغوط.
منذ وصولي إلى المغرب -في 2يونيو- لم أكف عن تنظيم مشاريعي، وأعمالي التي هي قيد الإنجاز. تجنب افتقاد الإيقاع الحميم، هو اختبار ومعركة يوميان، اشتغال على الذات المطلوب تعزيزها ودعمها. لا أعرف ما يسمى ب»العطلة»: الوقت الميت، نسيان الذات الطائشة…
أنا دائما في الطريق حول مشروع، فكرة، وحلم، وتخيل، ونزوة.
بالفعل، فقد قرأت مقالك المنشور في مجلة « La Citadine»، إضافة إلى المقال الآخر، الذي يبدو أقل إثارة. لا أريد أن أصدر حكما، على القسوة التي تكتنف أحاديثك، أو على علاقتك بالتحليل النفسي، وعلى ما كتبته عن الحقيقة والكذب، والعلم والفن، وعن حياتك، والزواج. قرأت هذه الحوار بدرجة ثانية. لديك طريقة منظورية perspective في قول الأشياء، تستكشفين فكرة، ثم ثانية، وتقدرين على قول العكس، وعكس العكس، المهم هو الدافع الذي يحثك على الكلام، والإحاطة الأقرب ل»الحقيقة». لكن اللغة هي فن للمباشر وغير المباشر، تتغذى وتنكسر، في هذا الالتباس.
بعيدا عن الاحتيال (نحتال لتقاعس في الفكر أو القلب) والحقيقة العارية (جرح عميق لكل لغة وإشاراتها الممزقة)، هناك الحذق، قول الأشياء، والمشاعر بحذق. إنه فن، فن الذوق والحساسية، والمهارة، والحرب القتالية بين الكلمات والأشياء، حيث نقع رهائن لحيلنا الخاصة. كنت بالأحرى منبسطا، وأنا أقرأ ما قلته عن النساء، والرجال، والزواج. لكنني قلق بشأن الوضع الراهن للتحليل النفسي، واعتقادك الحاسم في العلم، سيما علم الوراثةLa génétique؟ ماذا تقولين؟ إنك تمارسين التحليل النفسي، ويقصدك مرضاك: فهم في حاجة إلى تصديق مهنتك، ودرايتك. كيف ننظر إلى هذا التصريح إذا. لن يكون إلا مشجوبا، مدانا بقوة من طرف الآخرين. كيف ترين الاستمرارية في طريق التحليل النفسي، وفي الطريق الأخرى: العلم والكتابة؟
أعتزم الكتابة إليك باستمرار، وبسرعة أكبر. أما اليوم فأحييك.
مع مودتي.
عبد الكبير

 


الكاتب : ترجمة وتقديم: محمد معطسيم إهداء إلى مراد الخطيبي

  

بتاريخ : 25/06/2021