من رسائل عبد الكبير الخطيبي إلى غيثة الخياط … الرسالة 42: عندما لا نهتم بالسياسة فالسياسة تهتم بنا

«مراسلة مفتوحة» سلسلة منتظمة من الرسائل المتبادلة بين عبد الكبير الخطيبي وغيثة الخياط، طيلة أربع سنوات (1999-1995). انضبت المراسلات لموضوعة «التحاب» أو الانجذاب كما يفضل الخطيبي ترجمتها، وانطلقت من أرضية محددة «كتاب التحاب» Le livre de L’Aimance لعبد الكبير الخطيبي.
كتاب «مراسلة مفتوحة» قدره في عنوانه، الانفتاح والانزياح، فأثناء المبادلات التراسلية، وقع حدث خطير جدا، في الحياة الأسرية للكاتبة غيثة الخياط، وهو وفاة ابنتها الوحيدة. وبدل أن يتوقف المكتوب L’écrit، انفتح على أبعاد أخرى، وانزاح إلى موضوعات غير مدرجة قي الاتفاق المشترك والعقد الضمني بين الكاتبين. «إنه عقد ضمني، بشكل من الأشكال، يقول الخطيبي، تركناه مفتوحا على كل الاحتمالات». انتصرت الكتابة على الموت. وحولته الكاتبة إلى موضوع للكتابة ومادة للمبادلة التراسلية، كما هو واضح في رسائل للخياط ترثي فيها ابنتها الوحيدة «عيني» وتتفجع على أمومتها المفقودة وتنتقد فيها الممارسة الطبية، وهي الطبيبة في اختصاصات متعددة.
حضرت تيمات وموضوعات لم تكن مبرمجة من قبل: الفن، العداوة، السياسة، الزمن، السفر، الألم، العلم، الطب…إلخ.
صحيح أن الخطيبي رجل حوار، حوار منسق ومنظم سواء مع نظرائه أو قرائه أو طلبته. يتعلم حتى من طلبته. يمدد الحوار والمحادثة بتجربة الكتابة ويعده موردا للإغناء والتثمير يقول: «ففي بعض الأحيان يحدث لي أن أكتب أشياء بعد محادثة، كما لو أنني أمدد بالكتابة الحوار. وفي أحيان أخرى يمنحني الآخرون أفكارا، لأن في التبادل هناك اللغة. والحالة هذه، فاللغة تعيش في الجسد، وفيما أسميه الذكاء الحساس للجسدl’intelligence sensible du corps، ويترجم بالانفعالات، والأحاسيس، وطريقة الكلام، والأسلوب، كل ذلك مصفى بواسطة الذكاء الحساس للجسد؛ وبذلك فإننا نراه في طريقة الكلام، وفي طريقة الكتابة. فالحوار مؤصَّل في الحياة، وفي اليومي.»
لا تقرأ مراسلات الخطيبي والخياط خارج السياق العام للمسألة النسائية، أي المرافعة عن قضايا المرأة ومناصرتها، وإن كان هذا الكتاب ليس الوحيد الذي يتحدث فيه الخطيبي عن المرأة، فتحدث عنها في أعمال أخرى فكرية وإبداعية من قبيل: الاسم العربي الجريح، حج فنان عاشق، كتاب الدم… علاوة على التشجيع، الذي يخص به النساء، بتقديم أعمالهن، وإشراكهن في برامج إعلامية، كما لا تخفى نسبة الكثافة في كتابات النساء عن أعماله!
يقول الخطيبي: «هناك بطبيعة الحال إرادتي في الدفاع عن المرأة وعن صورتها وما تمثله، والقول بأننا يُمكن أن نتحاور. ومن جهة أخرى كنت دائما أتساءل عن مكانتي فيما يخص علاقتي بالمرأة عموما، أو بأي امرأة على الخصوص. ولابد أن أجيب عن هذا السؤال كل يوم. عندما تكون هناك شفرة للتواصل، سواء أكانت مع الرجل أم مع المرأة، إذ ذاك يُمكننا جعل الحوار يتقدم في المجتمع. وهذا فيما يبدو حيوي لأن هناك إما الصمت أو استغلال للمرأة، لأنه عندما نعرف هشاشتها في الصورة التي تكونها عن نفسها يُمكننا دائما أن نجعلها قابلة للعطب. إذن أولئك الذين يتلاعبون بعلاقتهم مع النساء يتحاشون الحوار؛ فهم يستخدمون هذا الضعف لمصالحهم الخاصة».

 

صديقتي،
لقد عدت للتو من القاهرة. تمثل لي هذه المدينة صلة ووصلا. مدينة بست عشرة مليون نسمة. مدينة لا تعرف النوم. السائقون، في شوارعها، يقودون مركباتهم، وكأنهم يمشون، كل ذلك دون اصطدام. مع قليل من الكياسة والتأدب، إلى حد ما. لا حوادث سير. كل شيء فيها انسيابي، وصاخب، ودرجة الحرارة فيها °40 في الشارع. أتجول على متن السيارة (وضعت رهن إشارتي). لمدة أسبوع، علي أن أتمشى فقط، من ساعتين إلى ثلاث ساعات، وهي مدة لا تكفيني، أنا المشاء السباح.
يمكن القول إنني أطلسي ما دمت ولدت على ضفة المحيط الأطلسي. كما يمكن الترتيق، والحلم بشيء آخر، قول ما يأتي: مدينة الجديدة، مازاغان، موزاغاو Mozagao في الوقع، مدينة سافرت عبر المحيطات، وأرست هناك. هكذا تبدأ الأساطير، بحكاية، بحلم يقظة خاطف، غير أن كل جيل يودع فيها صوته، الطابع السردي لصوته. تربط الأسطورة الناس، بمشهد مدهش يغتني من الأصول والجذور.
أثناء عودتي، زارني «لوكليزيو» Le Clézio (رفقة زوجته). وهو كاتب مطلع على الأساس الأسطوري في العالم ومهتم به، أول العوالم. جميع كتبه تحيل على الحنين، إلى عالم حيث لا أحد ربما، تعرف عليه، لكنه الفردوس المفقود للأصول والجذور. «لوكليزيو» هو شاعر يحلم بيقظة، بهذا المولد للحياة. إنه لأمر غريب كأنه يشبه كتاباته! كأن يظل هو هو، وسط الكآبة، التي أحس بها سيالة على نظرته، ووجوده!
أعدت قراءة رسالتك. رفض الحديث عن السياسة. موافق. لكن عندما لا نهتم بالسياسة فالسياسة تهتم بنا. بطريقتها. هل تعرفين هذه العبارة ل»بول فاليري» السياسة أولا، هي منع الناس من التدخل فيما يعنيهم. وفي فترة لاحقة، أضيف فن إرغام الناس على اتخاذ القرار حول ما لا يسمعون عنه شيئا/ ما لا يسمعونه. يتساوق هذا المبدأ الأخير مع الأول». إنه سوء فهم صارخ. ورغم هذا فالمدينة موجودة -عندما توجد- والسياسة تصلح مبدئيا، لتدبير السلم المدني في هذه المدينة. لكنني سأضرب صفحا عن هذه النقطة. أشعر أنك شاردة الفكر. هذا بالإضافة إلى أنني أتفهم موقفك.
وأنت تتحدثين عن ذاتك، تحيلين إلى شخصيات أسطورية: «بيثيا دلفي»، و»كاساندر»، و»ميدي»…لكن لعل في هذه الكوكبة المدرجة في الماضي، صوت الجوقة الموسيقية (وبالتالي الصوت الجماعي). وهو ما نبحث عنه جميعا، فيما نكتبه. فيما يدل عليه أثر «صوت غير مسموع». لا أدري، غير أن علينا أن نحس، حينما تتسع الكلمة للحياة والموت، وتستوعبهما، علينا الارتجاج داخل اللغة التي تعوض ظل الماضي؛ لتمسكنا من «اليد»، وتقودنا نحو ما هو عصي، عن الاتلاف في الإنساني. لست طفلا في جوقة، ولا كائنا راقدا في أحضان الذاكرة، لكن الكتابة هي أيضا نسيان. هذا هو القانون العنيد للسان.
أحييك، وأبعث إليك مودتي.
عبد الكبير


الكاتب : n ترجمة وتقديم: محمد معطسيم إهداء إلى مراد الخطيبي

  

بتاريخ : 26/06/2021