وقت مستقطع من الحرب (9) : عائشة البصري: للحرب وجه أنثوي يشع قبحا

هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف وذاك، يشتغل الأدب على الحرب بتأنّ بارع وهدوء مخاتل، ويضعنا على الطريق السريع للمتع الطائشة، إلى درجة نوع من الإشباع السام.
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..

 

لم أعرف الحرب، لكنني أعرف وجهها الأنثوي، الوجه المرعب والمخفي للحروب. فقد عشت حربا متخيلة في رواية “الحياة من دوني”. حربا بعيدة عن الذات الكاتبة في الزمن والمكان، تعود أحداثها للحرب العالمية الثانية.
لمدة ثلاث سنوات، ومن قرية تقع في أقصى الشمال الشرقي للصين، رافقت شخصيتين روائيتين ( تْشِنْ مَيْ وكوتْشِنْ ) في رحلة هروب نحو الغرب من ويلات الحرب. خلال هذه الحرب تم اختطاف مئات الآلاف من النساء من قبل الجيش الياباني واستخدمن كرقيق جنس (نساء المتعة) في المعسكرات .
انبثقت فكرة الرواية وأنا أتابع برنامجا وثائقيا عن كيفية استقطاب فتيات للذهاب إلى سوريا والعراق وإلى مناطق النزاع «للجهاد بأجسادهن». وكيف تختطف النساء وتباع كسبايا (الأَزدِيات)،كيف تباع النساء في ليبيا في سوق النخاسة.. يحدث هذا في القرن الواحد والعشرين.. شيء مستفِز ويدعو للغضب وللكتابة.
بعد واحد وثمانين سنة عن مذبحة «نانجينغ»، وجدتني أنبش جرحا أسود في تاريخ النساء، للتحسيس بأثر الحروب عليهن وللدعوة إلى تحييد جسد المرأة في الحروب الحالية ..وأنا أكتب «رواية الحياة من دوني» ، كان علي نقل أحاسيس ومشاعر ومعاناة المرأة المغتصبة من داخل حرب لم أعرفها. فكل ما كنت أعرفه عن الحرب هي تلك الصور الطازجة التي يبثها التلفيزيون صباح مساء وتتنافس عليها القنوات الفضائية. في هذا السياق زرت متاحف الحرب وأجريت عدة مقابلات في الصين مع نساء عشن تلك المذبحة. و لهول ما اكتشفته في هذه المغامرة توسع اهتمامي بالموضوع «المرأة والحرب» فسعيت لحوارات مع نساء تعرضن للاغتصاب في الحروب سوريات روانديات كوسوفيات بالإضافة إلى سؤال بات يشغلني: ماذا تعرف نساء جيلي عن الحرب ؟ فوجهت السؤال لمغربيات من عينات مختلفة..
.. الحوارات التي كانت خلفية لرواية «الحياة من دوني» أصبحت كتابا كاملا لصرخات نساء من بلدان متفرقة، ركنته في ملف على الكومبيوتر ونسيته. إلى اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية، ووصلتنا الصور التي تقذف بها القنوات التليفزيونية لنساء يحملن متاعهن وأطفالهن مشردات بين الحدود الأوروبية، ما أيقظ في داخلي هاجس الحرب على النساء والأطفال.
تابعت بداية على وسائل التواصل الاجتماعي التعليقات والنكت والتلميحات الجنسية التي تمحورت حول النساء الأوكرانيات. إضافة إلى اندلاع فضيحة فجرتها القناة12 العبرية عن محاولة استقطاب وابتزاز مائة شابة أوكرانية من اللاجئات لممارسة البغاء مقابل إخراجهن من جحيم الحرب و السفر إلى إسرائيل.
في وقت قياسي لم يتعدى شهرا على اندلاع الحرب، طفت على السطح فضائح الاغتصاب والاستعباد الجنسي في صفوف اللاجئات الأوكرانيات، وبين من بقين في الوطن صامدات أو مرغمات.
وسط محطة القطار ببرلين علقت لافتة كبير وضعتها السلطات الأمنية لتحذير النساء من مافيا الاتجار بالبشر، إذ سجلت عدة حوادث من هذا القبيل منذ بدأ استقبال ألمانيا للاجئات الأوكرانيات..قبل أيام، جاءت تصريحات لبرلمانيين أوكرانيين يؤكدون أن لديهم تقارير عن اغتصاب نساء أوكرانيات. ثم خرج وزير خارجية أوكرانيا ليتهم الجنود الروس باغتصاب نساء في المدن المحتلة…
الرابحون في الحروب هم تجار الأسلحة وتجار البشر. كلهم ينشطون في الخفاء بلا إحصائيات معلنة ودقيقة.
لا فرق بين الماضي والحاضر، غير هذه الوسائل المتطورة للتواصل، لفضح هذه السلوكيات اللاأخلاقية والحرب المعلنة منذ الأزل على جسد المرأة، فللحرب وجه أنثوي مرعب.
لا يمكن لكاتب أن يظل على الحياد، مهما حاول سيتورط في حرب ما. و لا يمكنه تجاهل الحرب التي أصبحت في السنوات الأخيرة في كل مكان. أكثرها حروب بالوكالة ساحتها دول ضعيفة. رائحة الحرب انتشرت في كل البلدان، تنتظر فقط حاكما معتوها ليشعل النار في العالم بلمسة أصبع على زر ..

عدت إلى الحوارات المركونة، حكايات بطلات بلا نياشين، لتجميعها في كتاب لأوصل هذا البوح المؤلم كما هو على لسان من عايشنه، لأسلمهن دفة السرد لعل كلامهن المباشر يجد صدا أكثر من المتخيل الروائي.
الآن، وأنا أشتغل على تشذيب الكتاب،أسعى إلى إضافة شهادات نساء أوكرانيات ..
«ليس للحرب وجه أنثوي» تُعنون الكاتبة البيلاروسية ( من أم أوكرانية) سفيتلانا أليكسييفيتش كتابها الشهير عن بطولات النساء في الحروب. أعنون كتابي القادم ب» للحرب وجه أنثوي يشع قبحا».

*»الحياة من دوني» رواية صادرة عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة. فائزة بجائزة أفضل رواية عربية لمعرض الشارقة 2018.
* سفيتلانا أليكسييفيتش جائزة نوبل للآداب 2015.


الكاتب : إعداد: سعيد منتسب

  

بتاريخ : 12/04/2022