أشياء صغيرة

ـ 1 ـ

لم أستطع التحدث إليك أيها الغريب ، إلاَّ و كان وجهُك هائما و معفرا بتراب آيت عبو الحبيبة . كنتَ ترفضُ الأمرَ رفضا باتا ، بل كنت لا تستسيغ حتى الاستماع إلى مقدماته الطلليّة . كنتُ أعرف أنكَ كنتَ تستحضرني من حياتكَ الماضويّة . وكنتُ أعرف أن ما مر من سنوات عجاف طواها النسيان ، لم تعد تحيي الذاكرة النعسانة و التعسانة .
لم أقل أريد أن أدافع عن وطن فقط ، بل كنتُ أذود عن حرماته ، كشاعر مجنون بالفروسية مسكون بالبطولة ، و أنا عريانُ الصدر في فلوات الغياب ؛ أنتظر ضربة شمس دونشواي . تلك القصة روتها فاظمة العربي ، عند مشارف بني عمر ؛ إحدى قبائل الخزازنة ، وهي ممددة فوق حصير الدُّوم تحت عريش ظلة العنب ، تحسب أكياس المحصول الزراعي الصيفي ، وهي تدخل المطمورة . فكلما مر من أمامها ظِل حمّال يتفصَّد عرقا، رمتْ بحبة الجرجير في الجـِراب . وعند الانتهاء ، تحسب عدد الحبات بقدر عدد الأكياس ، التي ابتلعتها المطمورة . لم تسعفني الذاكرة ، كيف كانت البدايات … ؟ أعبارة عن أحدوثة تتقلب في ليلها الأليل البهيم ؟ أم حكاية ألم و أمل طويلة ؟
فاظمة العربي بوشامها الأخضر الطـَّافح ، الذي يفصل وجهها المدور إلى لوزتين شديدتي الانحدار جهة الصُّدغين . وبعينيها الأخوصين اللتين ينتشر فيهما ظلام شفيف ، تدلهمُّ فيهما الحياةُ و تقسو . في عيون شواري أتان شهباءَ حملت عشها ، كلبوءة تذود عن صغارها من ضفاف مرسى القنيطرة بباب الهريسة إلى حوافي المكرن من وادي بهت ، عند حدود عيون أم الربيع . مرورا بغابة المعمورة ، وبأشجارها الصفصافة العالية ، وسفوحها المرجانية ذات ثـُغرات مقفولة الجادات . تتراشق فيها أغصانها عند هبة نسيم عليل ، وسط ذات الصفير، أرجل حافية تعانق التربة الرملية ، حيث تغوص فيها الأقدام . لم تنتشل من الأصقاع حلمَها الأزلي الدفين ، كانت رحلة في مهب النسيان ، تحمل معها رضوضا وتجاعيد لا تندمل أبدا.
فاظمة العربي بعدما انتظرت العودة ، لم تجد سوى السَّرابَ … ينتظرها . عند لكار ساحة الشهداء ، نزل جل المسافرين من الجنود ، كان العناق حارا بين المنتظِرين و المنتظَرين ؛ أحضان دافئة أصْقعها الانتظار . روائحُ أزكمت المكان بأغراض الجنود الذابلة . انزوت فاظمة العربي تحت إفريز كقطة بللها القطرُ ، دوَّى صوت القطار و دخانه هبابٌ يمخر العنان ، تاركا ساحة الشهداء غارقة في صمتها الأبدي … اِحتضنته كما احتضنها فراغ مقيم و مقيت ، لكنه ألم دفين ، يتولد منه بكاء و عويل و صراخ …

ـ 2 ـ

هذا الحضن الدَّافئُ لن يظهرَ ثانية ، لن يبعث من رماده كطائر خرافي ، لن يحمل عشّه مرة أخرى ، لن يطل على باب الهريسة أو على قنطرة الماغول المشدودة بأوتارها الحديدية الصَّدئة وأسلاكها الكهربائية البالية . لن يصعد إلى ساحة المريشال ليوطي ، حيث فيها يلهو الأطفال ، ويطلقون سيقانهم الصَّغيرة لريح هبْهابٍ . لن يشربَ مياه عين بوتمسيردين القَّراحة العذبة ، بل لن يتوضأ بمائه الزُّلال لصلاة الفجر أبدا …
ظلت بقلب كميد، يقطـِّعه الأسى و الغيظ ، وهي واقفة كفزاعة خريفية تحت إفريز الموت و اليقين . سألت خيالا بصوت متهدّج من الرجفة :
ـ العائدون قليلو العدد … لا قطار بعده ؟
كان جوابُه فيه من التلكؤ ما يكفي ، قال :
ـ الألغام هلكتِ الزرعَ والضرعَ . والكمائن يتمت العديد من الأسر و العائلات . لم يطهروا القناة ، دفعوهم يواجهون مصيرهم المحتوم ؛ وجهٌ آخرُ لحرب أكتوبر في هذا المجْرى الملاحي .
ـ لِمَ لمْ يطهِّروا القناة ؟ لِمَ لمْ يطهروا القناة ؟ لِمَ لمْ يدقوا جدار القناة ؟

ـ 3 ـ

كلما ظهرت فلولُ حبّات الرمان، القاني كالدَّم ، كانت فاظمة العربي تخرج القضيضَ من الجرَاب واحدا واحدا ، معلنة عن انتهاء الحول ؛ عن انطفاء جذوة الزمن . تستقبل شتو السّماء بقرٍّ يزنـِّر آيت عبو الحبيبة برداء طيْلساني ، يفصل شمالها عن جنوبها . رنت فاظمة العربي بعينيها المائيتين إلى المساحات الخضراء من الزرع الممتد في الأفق ، إذا بهدير يرتفع وينخفض ، هرْج و مرْج يتردد بين الشِّعاب و الجادات الضيّقة بالوحل والعشب البري الكثيف . غبشُ ذاك السَّراب المائي المتحول في النهايات ، يحمل إليها بقايا أشباه رجال ، يظهر أنهم يحملون على مناكبهم صندوقا خشبيا صقيلا ، ومُسفـَّنا بجلود التماسيح . تحلق حول فاظمة العربي قليل من نساء آيت عبو ، ينتظرن ما ستسفر عنه زيارة غير منتظرة لرجال ، يشيِّعون عمرا يأفل بسرعة .
ـ عقة ُهاهنا مُمدَّدٌ … وتبقى الأسود أسودُ .
عند جذع شجرة الكليبتوس ، ذات العريش الممتد في الحياة و التاريخ ، وضعوا الصندوق الأرجواني المشمَّع بخاتم العمر الغريب . وسط النحيب و البكاء القاسي أشياءُ صغيرة ٌ كانت تطفوا مثقلة بالفقد والغياب .
ـ عقة ُ دفنَّاه منذ ثلاثين عاما …
حملتُ عشكَ ، يا أبي ، لما يربُو عن سبعة أيام بين الليل والنهار ، إلى أن استويتُ على حوافي واد بهت . رأيتُ خلالها سفوحا مرجانيَّة ، وشلالات تشتوا فوق غابات الخروب الصَّامدة في وجه ريح صرصر عاتية ، يتحول رذاذها ، يا أبي، إلى قوس قزح ؛ يدمَع عيونهم العمِشة . قطعتُ بهم ، يأبي ، فيوفا ، وهم يقضمون التين البريَّ ، يشحذون به أسنانهم الصغيرة . يتحولون إلى فراخ نسر تستقبل الرذاذ و حقول البنفسج ، ومساحات كبيرة من البتولة ذات الصّفائح الخضراء ، التي تشبه راحة اليد . سأوقد نارا تحت ذاك القدر المُطيَّن غامق اللون ، كي ينضج فيه حلم راودني أياما و لياليَ طويلة ً.

ـ 4 ـ

أشياءُ صغيرة ٌكانت تقع ، وأنا أسمع آياتٍ من الذكر الحكيم يتلوها على مسامعنا صغارُ حفظة دار القرآن . في إيقاعهم الموزون كانت الكلمات تخرج من أفواههم الصغيرة منسابة عذوبة كنداءات خفية . وبين الفينة و الأخرى كان أحدُ قارئي الذكر ينهض من مكانه ؛ كي يلقي بجُذوة في الخلاء ، يلتقطها من مرجل خارج الخيمة . كنتُ أرهف سمعي إلى أحاديثِ بعض الرجال ؛ الجُذوة قطعة من نار استوت ، فستصبح رمادا تدروها الرياح .


الكاتب : رشيد سكري

  

بتاريخ : 02/11/2018