الدين والعلمانية ومسلك الكراهية

مصطفى خُلَالْ

عديدة هي المجتمعات البشرية التي يحضر فيها الدين بقوة في حياة الناس. وهو ما يعني أن الأفكار الدينية هي من صميم تلك المجتمعات بحيث أن أي حركة فكرية أوسياسية لا تأخذ بعين الاعتبار هذا المعطى ذا الشأن الخطير، يكون مآلها السقوط في أنواع شتى من التهافت. إنه يمكن توجيه النقد ليس إلى الدين ، بل إلى الإيديولوجيات الأصولية تأسيسا على أنها أفكار ليست من الدين في شيء، لكن لا يمكن نقد الدين الذي يدين به ملايير البشر.
إن النقد الأول يقدم الفكر، أما النقد الثاني والذي هو في الحق انتقاد وليس نقدا، فهو بدون أثر إذ لا يقدم ولا يؤخر، لأنه مجرد استعادة كسولة لنقد فكري رصين مؤسس في ظروف تاريخية مختلفة، وفي سياقات ذات رهانات قد تكون ذات جدوى في لحظات تاريخية بعينها، مثلما قد تكون ذات دلالات وحمولات تنتمي إلى أزمنة ماضية بعيدة فهي إذن بدون فائدة تذكر.
إن التغاضي عن رجحان هذه الحقيقة هو ما يجعل مسلكا من المسالك المرتبطة بالموقف من الأديان يؤدي إلى أشدها ظلامية وأقواها قبحا، فهي إذن خليقة بكل المقت. ويتعلق الأمر بمسلك الكراهية.
قد يصح القول ألا علاقة للدين بالكراهية من الناحيتين: المبدئية والإيديولوجية، لكن الحياة العملية تقول بما يناهض هذا. نحن اليوم في عصر يتسم في أوروبا وفي العالمين العربي والإسلامي بسيادة الكراهية التي تتخذ مرجعا لها، في هذا الاتجاه أو في ذاك، الدين. وتُتَرْجَمُ الكراهية أحيانا في مسلك يصل حتى إلى القتل والمحو. يمارس هذا البوذيون والهندوسيون واليهود والمسيحيون والمسلمون، ويتم العنف القاسي لديهم جميعا باسم دين يوجه ضد دين آخر، ويبقى المسلمون، بشهادة الواقع الجاري، الجماعة الدينية الأكثر تعرضا لأضرار الكراهية في كل صورها المقيتة. يحمل «راية» هذه الكراهية أحزاب سياسية ومنابر إعلامية بل وأحيانا، وهو أمر مدهش للغاية ومقزز، بعض مثقفين.
يلاحظ باحثون في السوسيولوجيا خاصة أنه كلما كان هناك حضور سكاني مسلم تكون سلوكات الكراهية أقل في محيط الجوار، وكلما كان هذا الحضور ضعيفا تكثر في فضاء الجوار سلوكات الرفض. وهو ما يعني أن الجيران المسلمين أناس طيبون، متخلقون، مندمجون في المجتمع إذا ما تم قبولهم. ولهذا دلالات أهمها أن سالكي سبل و«أخلاق» الكراهية إنما يتصرفون وفي كل الحالات تحت ضغط التأثير السياسي الحزبي والإعلامي و«الثقافي».
لخطابات الكراهية الدينية إذن ضحيتان متنابذتان: الضحية الأولى هي من يسلك سلوك الكراهية. فهو نفسه ضحية للجهات التي ذكرناها. والضحية الثانية هم المسلمون في عموميتهم.
إن المسلمين كضحية، يبقون هم الآخرون ضحايا مزدوجون: فهم من جهة واقعون تحت تأثير بل وضغط الطوائف الأصولية المرتكزة على العقيدة المحمدية، وهم من جهة ثانية موضوع دعاية إعلامية وحزبية ذات أغراض سياسية لا تخفى على أبسط عقل.
والحق أن الطرفين معا، الأصولية الإسلامية بكل تكويناتها وتلويناتها الإيديولوجية والسياسية، والنهج لبعض إعلاميين ولبعض حزبيين، إنما تتحقق لهم ذات الغاية، غاية يتيمة: الكراهية. غير أن تحقق هذه الغاية، بكل وجوهها القيمية المقيتة، تبقى مدمرة في آثارها الاجتماعية والثقافية، كي تشمل البعد الحضاري في كليته. ومن حسن الحظ أن عقولا مثقفة وأخرى إعلامية، وأخرى سياسية، في الجهتين المتقابلتين معا، عقولا كبيرة حقا، محترمة وشامخة، لا ترفض نهج الكراهية المقيت ذاك، بل وتجد له التفاسير المنيرة وتكشف عن ظلامية خلفياته. ونقصد هنا المفكرين المسلمين سواء كانوا يتبنون الإسلام في شموليته أو كانوا مفكرين أحرارا، والمفكرين الغربيين سواء كانوا ينتصرون للحضارة الغربية أو ينقدونها، إنما يقدمون خدمات جليلة للتوجه العلماني العام الذي هو الاختيار الأصوب الذي يضمن حرية واختيارات الجميع: المتعصبون للنهج الديني وناقدوه معا.
من هنا تثبت الأهمية الإيجابية للعلمانية، ذات الفائدة العظمى في كل الارتباطات التي تتعلق بالدين في مفرده، وبالأديان في جمعها. فالعلمانية إذ تحمي الممارسة الدينية والمتعلقة بأي دين كان، تحميها من جبروت الدولة وطغيانها، تحمي في آن واحد الدولة نفسها من جبروت الأديان وطغيانها. وهو ما يفيد أنها – العلمانية – السلاح الأمضى ضد التسلط من أي مصدر كان…وبتعبير آخر، ان العلمانية تحمي المجتمع كأفراد وكمجموعة من التجبر. ولسنا في حاجة إلى القول إن مسلك الكراهية أيا كان مصدره، وأيا كانت دواعيه، هو واحد من أحط مظاهر التجبر…

الكاتب : مصطفى خُلَالْ - بتاريخ : 28/06/2022

التعليقات مغلقة.