دي ميستورا – جنوب أفريقيا.. ولعبة بعثرة الأوراق

الجمعي قاسمي

استبق المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء المغربية ستيفان دي ميستورا تولّي المغرب رئاسة مجلس الأمن والسلم التابع للاتحاد الإفريقي بالقيام بزيارة إلى دولة جنوب إفريقيا، في خطوة وُصفت بغير البريئة لاعتبارات مُرتبطة بتوقيتها وبالأجندة السياسية لجنوب إفريقيا تجاه قضية الصحراء المغربية.
وأنهى دي ميستورا هذه الزيارة، التي بدأها يوم الأربعاء الماضي، دون أن يُقدم إحاطة حول نتائج الاجتماعات التي أجراها مع عدد من كبار المسؤولين منهم وزيرة الخارجية ناليدي باندور، ولا الأسباب التي دفعته إلى الإقدام على مثل هذه الخطوة في هذا التوقيت بالذات.
ودفعت هذه الزيارة العديد من المراقبين إلى القول إنها تؤسس لسابقة خطيرة من شأنها بعثرة الأوراق، باعتبارها تتناقض، لا فقط، مع طبيعة مهمته الأساسية وتتجاوز الأطراف المعنية مباشرة بملف الصحراء المغربية، وإنما أيضا لأنها لا تخلو من الحسابات السياسية ضمن إطار لعبة التوازنات الإقليمية.
وبدا دي ميستورا، من خلال هذه الزيارة، كأنه لم يتعظ من تجربته الفاشلة في سوريا عندما انحاز لطروحات أطراف دون غيرها، في سياق لعبة توازنات لم تأخذ بعين الاعتبار المعادلات التي كانت تتغير بسرعة على وقع الانعطافات السياسية والعسكرية الميدانية التي عرفها الملف السوري.
وبغض النظر عما إذا كان دي ميستورا يُدرك أبعاد هذه الزيارة وتداعياتها أم لا، فإن دولة جنوب إفريقيا التقطت اندفاعه غير المحسوب لتوظفه ضمن إطار أجنداتها الإقليمية، عبر استخدامه لبعثرة أوراق التوازنات الجديدة التي قد يفرضها المغرب خلال رئاسته لمجلس الأمن الإفريقي.
ويتضح ذلك جليا من خلال لجوء جنوب إفريقيا إلى إحاطة هذه الزيارة بالكثير من الغموض، حيث التزمت الصمت، ولم تُعلن عن مُخرجاتها، كما لم تكشف عن المحاور التي تم التطرق إليها، واكتفت بالإشارة في بيان صادر عن وزارة الخارجية إلى أن الزيارة كانت “مفيدة».
وبهذه الإشارة التي عمقت التساؤلات، تكون جنوب إفريقيا قد تجاهلت، عن قصد، الضجيج الذي أثارته هذه الزيارة على أكثر من مستوى، وسط جدل مازال متواصلا إلى غاية الآن في عدد من العواصم، لم تُبدده تصريحات الناطق الرسمي باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك التي سعى فيها إلى تبرير هذه الزيارة.
وفي هذا التبرير، قال ستيفان دوجاريك إن دي ميستورا “يذهب للتحدث مع الأطراف التي يعتقد أنه يريد نقاش الملف معها، فهذا جزء من ولايته”، غير آبه بأن تلك الزيارة تأتي في وقت يتسم بتصادم حاد في المقاربات بين المغرب وجنوب إفريقيا بخصوص ملف الصحراء المغربية.
ورغم أن هذا التبرير بدا غير مُقنع لمجمل المتابعين لتطورات ملف الصحراء المغربية، فإن ذلك لا يمنع من القول إن جنوب إفريقيا باستقبالها دي ميستورا في هذا التوقيت بالذات إنما تُسجل بذلك موقفا تُريد من خلاله إعادة ترتيب الأولويات، في مسعى لإحداث اختراق في المعادلات القائمة.
وعليه، يذهب العديد من المراقبين إلى القول إن ما أقدمت عليه جنوب إفريقيا إنما هو محاولة لتوظيف دي ميستورا لخدمة أجنداتها الإقليمية بحثا عن دور مّا في ملف يهم مباشرة وحدة الأراضي المغربية، رغم أنها لا تُخفي موقفها المنحاز في تناقض واضح مع توجهات مجلس الأمن الدولي بخصوص هذا الملف.
ووفقا لمعايير هذا الموقف الذي يجعل جنوب إفريقيا غير مؤهلة للمساهمة في إيجاد حل سياسي يُنهي هذا النزاع المُفتعل، تبدو الحسابات السياسية لجنوب إفريقيا مُرتبطة بشكل أو بآخر بعاملين اثنين، أولهما داخلي وله علاقة بالاستحقاق الانتخابي المبرمج خلال العام الجاري، والثاني إقليمي وله صلة برئاسة المغرب لمجلس الأمن والسلم الإفريقي.
وإذا كان العامل الأول له ما يُبرره بالنظر إلى الصعوبات التي تُواجه حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الذي بات يخشى فقدان غالبيته البرلمانية وبالتالي الاحتفاظ برئاسة البلاد، فإن العامل الثاني يبدو أكثر ضغطا باعتبار أن المعادلات التي كانت تحكم التوازنات السياسية في إفريقيا قد تغيرت وتجاوزتها الأحداث.
وعلى هذا الأساس، لا شك أن دولة جنوب إفريقيا تُدرك جيدا أن نجاح المغرب في فرض رؤيته ومقارباته على الصعيد الدولي قد يساعده خلال رئاسته لمجلس الأمن والسلم للاتحاد الإفريقي على تفكيك عناصر الملفات الأكثر إشغالا لإفريقيا، بما قد يُفقدها الكثير من الأوراق التي كانت تُلوح بها لضمان استمرار دورها الإقليمي.
ونحسب أن هذه القراءة التي تدفع بها العديد من مراكز الدراسات ودوائر التحليل الجيوسياسي الدولية كانت المُحرك الرئيسي الذي دفع جنوب إفريقيا إلى استقبال دي ميستورا تزامنا مع تولي المغرب رئاسة مجلس الأمن والسلم الإفريقي، ليس فقط للتشويش على هذه الرئاسة، وإنما أيضا لإحداث ضجيج قد يتواصل في قادم الأيام بعناوين مُخادعة.
وكان المغرب قد استلم في بداية الشهر الجاري رئاسة مجلس الأمن والسلم للاتحاد الإفريقي، في الوقت الذي وصل فيه دي ميستورا إلى جنوب إفريقيا، حيث ستتواصل هذه الرئاسة طيلة هذا الشهر، وسط انتظارات بأن الدبلوماسية المغربية الهادئة ستتمكن خلالها من فرض معاييرها على مختلف المستويات، والاعتبارات السياسية التي تتحكم بمفاعيل الوضع في إفريقيا.
ويُنتظر في هذا الإطار، أن يعمل المغرب، خلال رئاسته لمجلس الأمن والسلم الإفريقي، على إعادة إنتاج المشهد الإفريقي على ضوء تطورات الأوضاع وفق شروط موضوعية، تمكّنه من التعاطي مع أزمات القارة ومشاكلها السياسية والأمنية والعسكرية بواقعية سياسية تقوم على الاعتدال، دون أن يتجاهل المتغيرات المتسارعة وما ستُفرزه من احتمالات قد تكون ضاغطة.
وفي هذا الصدد، أعلن المغرب عن جملة من الأنشطة التي يعتزم القيام بها خلال فترة رئاسته لمجلس الأمن والسلم الإفريقي، التي سيتم خلالها عقد القمة الـ37 لرؤساء دول وحكومات الاتحاد الإفريقي بأديس أبابا، فستأخذ بعين الاعتبار الأهداف الكبرى لرؤيته لإفريقيا.
وتشمل هذا الأنشطة التي جاءت في برنامج عمل متكامل، عقد اجتماع وزاري لمجلس الأمن والسلم حول موضوع “الربط… السبيل نحو تعزيز السلم والأمن والاندماج بإفريقيا”، وذلك في متابعة لمؤتمر طنجة حول تعزيز الارتباط بين السلم والأمن والتنمية الذي نظمه المغرب في 27 أكتوبر 2022.
كما يتضمن هذا البرنامج عقد سلسلة من الاجتماعات الأخرى للممثلين الدائمين بمجلس الأمن والسلم الإفريقي لبحث المواضيع التي تحظى بالأولوية في إفريقيا، منها المسائل المرتبطة بمكافحة الإرهاب والتطرف، والأمن الصحي وعلاقته بالسلم والأمن، وتعزيز السلام، والتصدي لتجنيد الأطفال، إضافة إلى كل الركائز الأساسية الأخرى التي من شأنها تحقيق الأمن والتنمية في إفريقيا.
ومن هذا المنطلق، لا تبدو رئاسة المغرب لمجلس الأمن والسلم الإفريقي، خلال الشهر الجاري، مجرد إجراء لسد الفراغ، أو محكومة فقط بتطورات ملف الصحراء المغربية والدفاع عن وحدته الترابية، بل يفرضها شعور مسؤول متزايد بأهمية العمل من أجل المساهمة الفعالة في بناء مستقبل أكثر استقرارا وازدهارا لإفريقيا يرتكز بالأساس على مبادئ الحوار وحسن الجوار.
لذلك ستبقى زيارة دي ميستورا إلى جنوب إفريقيا وما انطوت عليه من نتائج ضمن دائرة تلك القراءات الموضوعية المشار إليها سابقا، ولا يمكن البناء عليها رغم ما أحدثته من تشويش، باعتبار أن المغرب راكم، منذ عودته إلى الاتحاد الإفريقي، في 30 يناير 2017، العديد من المكاسب التي عززت دوره الريادي في إفريقيا.

صحافي تونسي

الكاتب : الجمعي قاسمي - بتاريخ : 07/02/2024

التعليقات مغلقة.