هل تصنع الجوائز الأدبية أدبا حقيقيا؟

الجوائز بين «الظاهرة» والممارسة الثقافية

 الجوائز الأدبية: كعكة الأدباء المغرية

 

أضْحت الجوائز الأدبية في الفترة الأخيرة وعلى الصّعيد العربي بعامة ، كعكة مُغْرية يسيل لها لعاب الأدباء من كل فجّ عربي ويتسابقون للحصول عليها بعزائم أدبية مُستنْفرة، وبخاصة بعد أن سطع نجم الجوائز الأدبية الخليجية وعمّ بريقه الآفاق العربية، ونابت الحواضر الخليجية الجديدة كالرياض وأبي ظبي ودبي والشارقة والدوحة ومسقط على سبيل المثال ، مَناب الحواضر العربية التقليدية العريقة كالقاهرة وبغداد ودمشق وبيروت .. التي خفَت نجمها وانكسرت ريحها بعد أن انقلبت موازين القوى في المنطقة عقب الطفرة البترودولارية من جهة، والاجتياح الأمبريالي – الأمريكي للمنطقة العربية من جهة ثانية ، وتحوّل وُعود الربيع العربي إلى عواصف الشتاء العربي من جهة ثانية .
وهي الأمور كما شاهدتها دول / من سرّه زمن ساءته أزمان.
وهكذا سرق الخليج الضوء من العواصم الثقافية العربية التقليدية ، وتحوّلت ثنائية المركز والمحيط الثقافية عطْفا، إلى المحيط أو الهامش العربي، ممثّلا في دول الخليج والمغرب العربي . وتلك الأيام نُداولها بين الناس .
وساعد المال دول الخليج، دون غيرها، لتصبح هي المراكز المرموقة للإشعاع الثقافي العربي، وذلك من خلال الجوائز الأدبية الشهيرة ، كجائزة صدام سابقا ، وجائزة الملك فيصل ، وجائزة سلطان العويس ، وجائزة الشيخ زايد ، وجائزة السلطان قابوس ، وجائزة البوكر، وجائزة كتارا ..وهي جوائز سخية كان للأدباء المغاربة فيها حضور ونصيب .
وهنا لا بد من الاعتراف بالفضل لذويه والإقرار بالمكْرمة الثقافية الحاتمية لدول الخليج، حين لاءمت بين المال والثقافة وانفتحت بأرْيحية ثقافية على بلدان العالم العربي، وجعلت العلامات الثقافية العربية جزءا من استراتيجيتها الثقافية . ونفكّر هنا بخاصة في نموذج الشارقة، القلعة الثقافية – الخليجية المشعّة على مدار العام .
هذه باختصار هي حكاية الجوائز الأدبية الخليجية التي شدّت إليها أنظار وأشواق الأدباء العرب على اختلاف أجيالهم وأعمارهم وأقدارهم ، القدامى منهم والمحدثين، المشهورين منهم والمغمورين، الميسورين والمعسرين .
وفي الفضاء العربي المترامي الأطراف، جوائز أدبية وطنية مختلفة ومتفاوتة على مقاس كل بلد ، وحسب درجة وعيه الثقافي واهتمامه بالثقافة والمثقفين، ومن ضمنها جائزة المغرب للكتاب ، التي أضحت هي الأخرى حلبة للتباري والسباق والأخذ والردّ واللّتّ والعجن .
لكن تبقى الجوائز الأدبية الخليجية هي المتربّعة بأبّهتها على المشهد الثقافي العربي وقبلة الأنظار ببريقها الذي يخلب الأبصار، والمَوْرد العذب كثير الزحام ، كما قال بشّار بن بُرْد .
حتى أرْبت لوائح المشاركين – المتبارين على هذه الجوائز على الآلاف المؤلفة . وأصبحنا تجاه مسلسل طويل من التصفيات والانتخابات لهذه اللوائح المُثقلات عددا ، ومراحل متدرجة في الاقتراب من ضفاف الجائزة .. وهو ما يجعل من هذا السباق الماراطوني في حلبات الجوائزالأدبية ، ظاهرة سوسيوثقافية مثيرة للأسئلة وراشحة بالدلالات .
ولقد عهدنا في ما مضى من الأزمنة، أن الجائزة الأدبية هي التي تسعى إلى الأديب وهي التي تطرق بابه من حيث لا يحتسب في الأغلب الأعمّ ، على نحو يذكّرنا بقول أبي الطيب :
أنام ملْء جفوني عن شواردها / ويسهر القوم جرّاها ويختصم
ويبدو كأن الآية انعكست تماما في زمننا العربي الراهن ، فأضحى الأدباء هم الذين يسعون سعيا ويركضون ركضا إلى كعكة الجائزة المغرية ، خاطبين ودها وملتمسين رضاها .
ولمبدعنا وكاتبنا الكبير أحمد المديني رأي صريح في الموضوع ، يقول: «والفائزون ، بين روائيين وشعراء وفنانين ، أغلبهم من المعوزين ، ممن وجدوا ضالتهم في هذه الأعطيات والإكراميات ، فتهافتوا عليها إما لسد العوز أو لنيل شهرة يغفلون أن رأسمالها هو النصوص قبل صكوك المانحين». (عن ملف أعده الصحفي المصري صبحي موسى عن الجوائز الأدبية في العالم العربي ، شراء ولاءات أم بحث عن فعل ثقافي حقيقي ؟ )
في مقابل هذه الحالة العربية ، تحضر إلى الذاكرة حالة أخرى معاكسة من الضفة الأخرى ، لأدباء كبار جاءتهم جائزة عالمية كبرى تطرق أبوابهم وأسماءهم ، هي جائزة نوبل ، فرفضوها وأشاحوا عنها بوجوههم غير مبالين، وهم برنارد شو وجان بول سارتر وبوريس باسترناك .
ولبرنارد شو قولة شهيرة ورائعة في هذا الصّدد يقول فيها :
« إنّي أغفر لنوبل أنه اخترع الديناميت، ولكنني لا أغفر له أنه أنشأ جائزة نوبل «.
وللحالة العربية بلا شك ، دوافعها وأسبابها الاقتصادية والاجتماعية الضاغطة التي تدفع الأدباء العرب إلى التسابق بمناكب نصوصهم نحو كعْكة الجائزة ، وتجعلهم أمام إغراء كبير يقرب أن يكون إرهاب الجوائز .
هذه الظاهرة الأدبية الجديدة ، تستعيد ظاهرة أدبية قديمة ، وهي ظاهرة التكسّب الأدبي التي كانت تدفع الشعراء والأدباء في العصور الخوالي ، إلى طرْق أبواب وأعتاب الخلفاء والأمراء لتقديم إنتاجهم الأدبي طمعا في جوائزهم وعطاياهم .
كما تستعيد ظاهرة أدبية مماثلة وهي ظاهرة الكُدْية ( التكسب بالأدب ) ، خارج أسوار القصور والبلاطات ، وفي سُوح المجتمع وأسواقه .
والحقّ أن دخول الجوائز الأدبية الخليجية على الخط ، قد حرّك السّواكن وشجّع الأدباء على الكتابة وساهم في إنعاش الإنتاج الأدبي، وأفرخ ظاهرة أدبية فريدة ، وهي الكتابة من أجل الجائزة، وعلى مَقاس شروط الجائزة ومن أجل عيون الجائزة بما يعني أن الكتابة فقدت، أو كادت، حريتها الذاتية وإلهامها الخاص وطُهرانيتها الشعرية التي توارثناها عبر عصور الأدب، وأصبحت كتابة تحت الطلب ، وبإلهام الجائزة ، وفقدت تبَعا جودتها وقيمتها الأدبية واللغوية، وغدت كتابة نيّئة بتعبير الكاتب السوداني أمين تاج السر ( ولذلك تجد كثيرا من الأعمال المقدمة للجوائز الأدبية ، حتى من كتاب كبار، نيّئة وبحاجة لتنضج . لكن نشرت لتركض في سباق الجائزة ) . ( مصدر سابق).
وأصبحت الرواية، إذن، في الدرجة الأولى، هي ضيفة شرف الجوائز الأدبية وقِبلة أنظار وأقلام الأدباء العرب ، في حلَبتها النثرية – السردية الفسيحة يتنافس المتنافسون ، حتى نافس الإنتاج الروائي العربي، كمّيا، الإنتاج الغربي والشرقي . ونشأت في سياق ذلك ، ظاهرة أدبية أخرى مُحايثة، وهي هجرة كثير من الشعراء والنقاد صوْب ضفاف الرواية . وهذه ظاهرة أدبية خاصة لا أريد أن أربطها حصْرا بظاهرة الجوائز الأدبية .
ومما يُلاحظ في أمر هذه الجوائز الأدبية بعامة، أن كثيرا من لِجان قراءتها أضحت مثارا للقيل والقال وكثرة السؤال .
ما هي معايير اختيار هذه اللجان، وما هي المعايير الأدبية والعلمية التي تعتمدها هذه اللجان في قراءة وفحص وتحكيم الأعمال المتبارية ؟
وكيف يستطيع أعضاءُ اللجان المعدودون – المحدودون، أن يقرأوا كل هذه الأحمال الثقيلة من الأعمال الأدبية المعروضة عليهم ، ويفرزوا غثّها من ثمينها ؟
وهل ثمّة لجنة علمية تراقب اللجنة العلمية ، وفوق كل ذي علم عليم ؟
وثمة ملاحظة أخيرة أساسية ، تتعلق بالطابع الإعلامي – الظرفي لهذه الجوائز الأدبية بعامة مشرقا ومغربا . إذْ ما إن تنتهي بروتوكولات تسليم الجوائز وينفضّ السامر على مكة، حتى تهدأ الزوبعة الإعلامية ويُطْوى ملف الجائزة إلى الموعد اللاحق ، دون مواكبة الحدث الثقافي واستثماره أدبيا ونقديا وإعلاميا على نطاق واسع . وهذا الصنيع يجعل مناسبات الجوائز الأدبية مهرجانات ثقافية موسمية ، لا تختلف كثيرا عن المهرجانات الموسمية الأخرى .
لا أريد بهذه الملاحظات الأولية التحامل على الجوائز الأدبية أو غمْز قناتها والحطّ من قيمتها، وما ينبغي لي ذلك ، بل هي ملاحظات وهوامش على ظاهرة أدبية عريقة فائقة الأهمية والرمزية ، نكنّ لها كل التقدير ونرجو لها الاستمرار والتجدّد ، مبرّأة من الشوائب والعيوب.
إذْ لا أحدَ يجحد القيمة الرمزية – الاعتبارية للجوائز الأدبية الرافعة من شأن الأدب والأدباء ، وبخاصة في هذا الزمن المتوحّش الموبوء ، المتنكّر للأدب والأدباء .
ولا تعْدم العروس ذامّا ، على أية حال .


الكاتب : د. نجيب العوفي

  

بتاريخ : 15/05/2020