بارانويا

لا يتكلم معي. يراقبني فقط وأنا أحشر رأسي تحت الوسادة، وأنا أستيقظ لأنني قررت أن أغسل يديّ بالصابون السائل، وأنا أشرب قهوة أمريكانو على الريق، وأنا أتمدد على الأريكة أحفر السقف وأغرس فيه عاداتي التي كنت ألتقيها أكثر من مرة في اليوم، وأنا أكتب صراخي الحاد الذي أسمعه وحدي، وأنا أقف مترددا قبالة ذلك الحصان الخشبي الهزاز المهمل في شرفة البيت.. وكان شيء غامض يتدفق من التلفاز. لم تكن صورا من طراز ما لم أستطع السيطرة عليه.. شيء أشبه بمقطوعة موسيقية من فيلم ويسترن. هل كنت أسمع صوت المسدسات والبنادق خارج البيت؟
لا يقول شيئا، ولا يفصله عني سوى بضعة أمتار. يرتدي تحت معطف لا أزرار له ، قميصا أصفر بخطين أحمرين يتمددان عرضا، وسروالا بنيا من القطيفة يكشف عن ساقين يحملان آثار كسر قديم. لونه ممتقع قليلا، وعلى وجهه تجثم ابتسامة فاحشة لا تتناسب مع عينيه الضيقتين. قلت مع نفسي إنني أعرف جميع أسرار هذا الطفل الذي قتلته منذ أكثر من ثلاثين عاما، وشويت قلبه ورميته لقطط السطوح. كان يلعب ذلك المساء بعرائس أخته الصغرى حين أغمضت عينيه من خلف وهويت عليه بساطور وسحبته إلى نصف ظل. لست متأكدا تماما من أنني قتلته، أم أنني رسمت بابا في الجدار وخرجت. هما صورتان متعالقتان، أقتل وأدقُّ على قلبه. أقتل بحذر، وأخرج من باب أرسمه وأمحوه كما يحلو لي.
كان ينظر إليَّ بازدراء وأسنانه تلمع. تمدد أمامي على الأريكة الأخرى، وأخرج من أذنيه سحابة ضباب متموج اتسع ببطء إلى أن غطى المكان كله.  أراه هو فقط يتعرى كما ولدته أمه، ويخرج من صدره شيئا لزجا يذوب ببطء. ينفض يديه بشدة، ويمسحهما بمنديل ورقي، ويخبرني بأنه سيحرق جميع الأشجار المصطفة على جانبي شارع مولاي يوسف، انتقاما من اللقالق التي تسحل عليه، وبأنه سينسب ذلك إلى ضوء غريب. أراه يرقص حتى التصقت ركبتاه ببطنه، ولا أراني. أراه ينحني ويقفز غارقا في لحن ينساب من رباعية وترية عنيفة.  الضوضاء تهز كل شيء. أشعر بالكنبة تهتز تحتي. فنجان القهوة يندلق على رواية لأندريس نيومان. السقف يسعل والجدران تصطفق. أسارع إلى باب الشقة لأشل حركته. لا أريد لجارنا العريض المنكبين ذي اللحية المخضبة بالحناء أن يطرق بابي ويضع عينيه في عينيَّ. سيحدثني لا محالة عن القعقاع بن عمرو التميمي، وسأحدثه عن دينيس فيلينوف وفيلمه “سيكاريو”. سيشتمني في سره، وسألعنه في سري، قبل أن أنشق عن نظره وأفزع إلى الداخل، فلا أجد إلا ذلك الطفل يبكي بصوت خافت وهو جالس على كنبتي ينظر إليَّ بتردد، وإلى تلك الأوراق والكتب المبعثرة على الأرض. أسأله إن كان يريد حليبا ساخنا، لكنه أخبرني أنه يريد أن يغادر  فقط لأنه يعاني من حالة ربو شديدة الخطورة، وأنه لا يجد الباب. هل عليّ أن أخترع بابا لأتركه يخرج؟
بعد طول تفكير، قررت أن آخذ مقاسه واستخدامه لصنع باب يصلح لخروجه هو فقط. ولما لم يكن له سببا وجيها للرفض، رفع ذراعيه عاليا وخبأ ابتسامته في الجانب الأيمن من رقبته. كنت أراها تندلق تحت كتفه وتترقرق في صدره. فصلت كل جزء منه، منحنياته وتمدداته والتواءاته، ورسمت بابا لن يكون جاهزا تماما إلا يوم الأحد. أخبرته بالأمر، فأذعن على مضض، ودخل في صورة رجل من البنجاب اسمه رافتار سينغ يتدلى من جسر. نقلت بصري بين الرجل الهندي على التلفاز، الذي نجح بهجمة رأسية واحدة في إلقاء عصابة من ثلاثين رجلا على الأرض، وبين هذا الطفل المعمم الذي  يمسك باقة زهور في آخر الممر بين الكنبة والمدخل المؤدي إلى المطبخ. كانا شيئا واحدا. وضعت إصبعي على شفتيّ وهمست: “هسس.. هسسس”، بينما كان يذرع الشقة جيئة وذهابا بقدم واحدة، دون أن يلتفت إليّ..
بعد دقائق، دوّت طلقة مسدس في الخارج. حاولت أن أظل من النافذة، لكن رافتار سينغ سبقني إليها. امرأة تشبه سكارليت جوهانسن، ترتدي بلوزة زرقاء يخترقها بشكل لولبي صف رفيع من النجوم البيضاء، وإلى جانبها يسير أندريس نيومان بلحيته المشذبة مثل قط مضيء. لا بد أنه يحدثها عن “المرأة النمر” التي كتب عنها عدة أسطر قبل أن تتبخر وراء ذلك الجبل السميك من تاريخ الأرجنتين البعيد. لا بد أنه يطلعها على رغبته العارمة في لعقها وهي ممددة على مشرب البار الذي تعود ارتياده كل ليلة. لا بد أنه يكلمها كحيوان شرس، وأنهما متوجهان الآن إلى مقصورة في مسرح ما من مسارح مدريد.
أندريس لم يكن يحمل مسدسا. وكان من الواضح أن رافتار سينغ هو من أطلق الرصاصة، وأنه سار عدة خطوات صوب الحافة ليلقي نظرة أخيرة على جثة عدوِّه. كان لا بد أن أغلق النافذة وأطفئ التلفاز..
رأيته هناك ينكمش ويكف عن الرنين الصامت، كأنه يريد الهرب من الدخان المتصاعد من أذنيه. الشرفة عالية، ولا باب للشقة، وما زالت تفصلنا عن يوم الأحد بضعة أيام. أريده حقا أن ينصرف، لكنه يلتصق أكثر بالحائط، بتلك الحفرة المظلمة التي يسميها طبيبي النفسي بارانويا..


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 15/05/2020

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *