أبني سفينة أخرى

 

صَعْبٌ أَنْ تَعيشَ مع روحٍ لَيْسَتْ روحَكَ،
وجَسَدٍ لَيْسَ جَسَدَكَ،
وطائِرٍ لَيْسَ طائِرَكَ،
وسَريرٍ لَيْسَ سَريرَكَ،
وامْرَأَةٍ لَيْسَتِ امْرَأَتَكَ،
وسَفينَةٍ لَمْ تَكُنْ لِنوحٍ..
وإِنَّما لِقَراصِنَةِ المُحيطِ!

آدَمُ ماتَ، وأَنا ابْنُهُ، وأَنْتَ شَريكي في الوَرْشَةِ.
قَريباً يَنْسَكِبُ الماءُ، ويَفيضُ النَّهْرُ.
أَنا وأَنْتَ شَريكانِ، فَلْنَقُمْ بِالواجِبِ الأَخيرِ.
اُقْتُلْني، وأَقْتُلُكَ!

قَتَلْتُهُ وحَمَلْتُ هَيْكَلَهُ العَظْمِيَّ وصَنَعْتُ السَّفينَةَ،
حَدَثَ هذا في الوَقْتِ الذي قَتَلَني هُوَ الآخَرُ،
وحَمَلَ هَيْكَلِيَ العَظْمِيَّ وصَنَعَ السَّفينَةَ.
نَحْنُ، أَنا وأَنْتَ، لَمْ نَمُتْ.
كُلُّ ما في الأَمْرِ أَنَّنا صِرْنا سَفينَتَيْنِ،
والنّاسُ يَرْكَبونَ والطّوفانُ يَغْمُرُ الأَرْضَ.

هذا ما يَحْدُثُ دائِماً:
أَنْ نَكونَ في المَكانِ غَيْرِ المُناسِبِ.
أَنْ نَتَسَلَّقَ الكَرْمَةَ التي لا تينَ فيها.
أَنْ نَصْحُوَ فَنَجِدُ القِيامَةَ قَدْ أَزِفَتْ.
أَنْ نُرَبِّيَ فِراخَ حَمامٍ،
وحينَ تَكْبُرُ تَصيرُ قَنافِذَ بِلا أَجْنِحَةٍ،
أَنْ نَشْرَبَ المُحيطَ فَنَزْدادُ عَطَشاً،
أَنْ نُحِبَّ التي لا قَلْبَ لَها.
أَنْ نَحْفِرَ البِئْرَ، عَميقاً، في الصَّخْرِ المُبَلَّلِ بِالعَطَشِ.
أَنْ نَسوقَ الشِّياهَ إِلى طُرُقِ الذِّئابِ.
مع ذَلِكَ لَنْ أُغادِرَ الآنَ،
سَأَنْتَظِرُ طوفاناً آخَرَ لأَعْرِفَ مَنْ أَنا!

لَمْ تَكُنْ سَفينَتي مِنَ النَّوْعِ الذي يوجَدُ في الميثولوجْيا،
كانَتْ أَقْرَبَ إلى احْتِمالٍ مُهَدَّدٍ بِإِمْكانِيَةِ عَدَمِ وُقوعِهِ.
كُنْتُ الرُّبّانَ والرّاكِبَ والغارِقَ،
حَتّى إِذا ظَهَرَ جَسَدُ اليابِسَةِ العاري مِثْلَ فُقْمَةٍ،
عَلِمْتُ ِبأَنَّ الغَرَقَ والنَّجاةَ،
كانا فَرَضِيَّتَيْنِ،
فَصارا الآنَ قابَ قَوْسَيْنِ مِنْ تَحَقُّقٍ يُلْمَسُ بِاليَدِ،
ودونَ دَعْمٍ مِنْ يَقينٍ أوْ شَكٍّ أوْ فِكْرَةٍ سيقَتْ على مَضَضٍ.

عِنْدَما بَلَغَ الماءُ عُنُقي،
شَمَمْتُ رائِحَةَ الغَرَقِ الشَّهِيَّةَ مِثْلَ حَبَّةِ فَراوْلَةٍ.
وحينَ غَمَرَني الماءُ أَغْلَقْتُ عَيْني،
فرَأَيْتُ الأَسْماكَ في القاعِ،
والمَوْتى، والشُّعَراءَ، وعابِري السَّبيلِ،
فقَرّرْتُ أَنْ أَطْفُوَ فَوْقَ الماءِ حالاً،
لَيْسَ هذا هُوَ الغَرَقُ الذي كُنْتُ أَحْلُمُ بِهِ،
سَأَنْتَظِرُ طوفاناً آخَرَ لأَعْرِفَ مَنْ أَنا!

(من ديوانه الصادر حديثا:
«آخر الناجين من الطوفان»)


الكاتب : المصطفى ملح

  

بتاريخ : 12/03/2021

أخبار مرتبطة

  قد تحمل الحرب الإسرائيلية الجارية علnى قطاع غزة  المفكر المغربي المعروف عبدالله العروي على التفكير في كتابة الجزء الخامس

تعني الكتابة في ما تعنيه، أن تتواجد في مكان آخر بينما أنت قابعٌ في مكان مّحدد المعالم، أي أن تكون

يرتقب أن تستقبل مؤسسة»أرشيف المغرب» معرضا خاصا بمسار عبد الواحد الراضي، القيادي الراحل في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وقبله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *