أبو الخير الناصري في رحلته الجديدة .. في التأصيل لأدب الرحلة من خلال نصوص «فِتْر وشِبْر»

 

لعل من أهم عناصر قوة متون أدب الرحلة، قدرتها الهائلة على تحقيق الاختراق المعرفي لحقول علمية وإبداعية شتى، لعل أبرزها الكتابات الإبداعية نثرا وشعرا، ومجال اللسانيات، وعلوم التاريخ والاجتماع والأنتروبولوجيا. لذلك، مارس هذا الجنس الأدبي – الفريد في الاحتفاء بالحميميات المرتبط بمشاهدات الرحلة- عناصر الغواية على رواد العملية الإبداعية بمختلف تجلياتها وبتعدد تعبيراتها. وتحول إلى مجال أثير للاستثمار وللتوظيف وللانفتاح على دهشة العالم والآخر. فأصبح هذا الجنس، المركب في السرد وفي الحكي، نافذة مشرعة أمام نزوع الذات نحو ترتيب أنماط انفتاحها على المحيط المحلي والواسع، في أفق بلورة أساليب الاستيعاب والتمثل في إطار قيم إنسانية كونية. ونتيجة لذلك، اكتست مذكرات الرحلة بعدا أساسيا داخل مظان المعرفة المرتبطة بالعلوم الإنسانية، بل وأفرزت سياقات عميقة لإنتاج خطاب المغايرة أولا، ثم لإعادة قراءة الذات لعناصر وعيها بذاتها وبمحيطها ثانيا.
لم تعد الرحلة مجرد تنقل داخل جغرافية الوطن وخارجها، ولم تعد الكتابة عنها مجرد نزوة عابرة مرتبطة بنزوع الذات نحو اكتشاف العوالم المختلفة عن فضاء المنشأ والانتماء، ولم تعد – كذلك- مجرد تعبير عن دهشة التلقي، ولكنها – قبل كل ذلك- أضحت وسيلة أثيرة أمام الذات لممارسة أقصى درجات متع الافتتان بالألوان وبالوجوه وبالرموز وبالشواهد في سياق المنحى العام لهذا الافتتان على مستوى الكتابات المحتفية بالذات قبل الآخر، وبعناصر الاختلاف قبل كوابح التنميط، وبملكة الكتابة المنتجة للنصوص وللاستعارات وللتمثلات قبل التعبيرات الانطباعية السريعة والمستنسخة.
لكل هذه الاعتبارات، أصبحت الكتابة عن الرحلة واستثمار ممكناتها الاحتفائية والإبداعية، مطلبا متجددا بامتياز لم ينحصر على مجال إبداعي أو علمي دون آخر، إذ أصبح له رواده ومريدوه. وفي المغرب، أفرز هذا المنحى سياقا عاما أنتج نصوصا على نصوص، وأعمالا على أعمال، وكتابات على كتابات. وظهرت هيئات إبداعية ومنتديات أكاديمية اهتمت بالتأصيل لآفاق الاشتغال على متون الرحلات وتطوير الدرس الجامعي المرتبط بها، بموازاة مع صدور الكثير من الكتابات السردية ذات الصلة، والتي حققت تراكما كبيرا ما فتئ يتعزز بشكل مسترسل مستفيدا من تطور غواية السرد ومن اتساع رحابة لذة النص المشتهى.
في سياق هذا التطور العام، يندرج صدور كتاب «فِتْر وشِبْر» للأستاذ أبو الخير الناصري، مع عنوان فرعي دال «رحلات داخل المغرب»، وذلك سنة 2024، في ما مجموعه 185 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. ويشكل العمل الجديد إضافة منسجمة – تماما- مع الأفق العام لنمط اشتغال الأستاذ الناصري في سعيه لتطويع لغته المخصوصة، وتعبيراته الشفيفة، وبلاغته الأخاذة، وخاصة في نصوصه السردية المحتفية بتجارب ذات المؤلف وبقلق أسئلته الفكرية والثقافية، وعلى رأسها كتاب «لا أعبد ما تعبدون» (2011)، وكتاب «وردة في جدار» (2015)، وكتاب «غيمات الندى» (2019)، وكتاب «فحص مضاد» (2022). وداخل هذا النهر الدافق من العطاء، يقدم الإصدار الجديد إضافة هامة لحصيلة تراكم عطاء المؤلف، من زاوية الكتابة عن متع السفر وعن عوالمه العجائبية المثيرة التي تسمح بأنسنة الأمكنة، وباستنطاق الشواهد المادية، وباستلهام الدلالات الرمزية للتراث الذهني للمنطقة المتوجه إليها، ثم بصياغة التمثلات داخل قوالب لغوية أحسن أبوالخير الناصري استثمار إمكانياتها التواصلية والإبداعية بشكل كبير. يتعلق الأمر بنصوص مستلهمة من زيارات قام بها المؤلف لفضاءات ولمناطق تنتمي – في غالبيتها- لمنطقة جبالة بشمال المغرب، وهي الفضاءات الموزعة بين ضريح مولاي عبد السلام بن مشيش، والقصر الكبير، وتطوان، والرباط، وشفشاون.
اختار أبوالخير الناصري الاحتفاء بطريقته الخاصة بفضاءات الاستقبال، مقدما متنا شيقا، يثير الانتباه بارتكازه إلى أسلوب سلس متمكن من قواعد توظيف الألفاظ والدلالات لإنتاج سرد قوي مستثمر لأقصى ممكنات اللغة العربية ولأدواتها التعبيرية، بعيدا عن أسلوب الوصف التقني الجاف المثقل بهواجس نقل الخبر الآني من دون تمحيص في السياقات وفي الأبعاد وفي الدلالات. وفي المقابل، تتقاطع لغة أبوالخير الناصري مع أبعاد فكرية وثقافية تختزل حصيلة عطائه العلمي والثقافي، المرتبط بقدرته الفائقة على الارتقاء بآليات التعبير اللغوية إلى مستويات جمالية راقية، وإلى أبعاد إنسانية عميقة تتجاوز اللغة التقريرية المرتبطة بوصف الحدث في زمنه المحصور وفي مجاله المخصوص. يكتب أبوالخير الناصري سرده وعينه «الثالثة» تشتغل لالتقاط ما لا تراه عين المتلقي العادي. ونتيجة لذلك، يتداخل المتن الأدبي المتفاعل مع المجالات المُشاهدة، مع نوافذ الإحالات التاريخية، ثم مع خصوصيات حقل علم الطوبنيميا، ومع مجالات الإبداع اللساني، ثم مع الاحتفاء بقيم الإنسان في خصوصياتها المحلية، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا وهوياتيا. وللاقتراب من معالم هذا الأفق الإبداعي الفريد، يمكن الاستشهاد بمقتطفات مما كتبه أبوالخير الناصري بخصوص رحلته لضريح مولاي عبد السلام بن مشيش، ففي ذلك اختزال لمجمل العناصر المميزة للغة الكاتب، حسب ما حددنا معالمه أعلاه. يقول الأستاذ الناصري: «وصلنا سفح جبل العَلَم حيث مدفن مولاي عبد السلام بن مشيش فأوقف صديقي السيارة، ودعاني لزيارة بقايا قصر بناه المولى اليزيد بن محمد بن عبد الله. تجولنا داخل أطلال القصر، واستفدتُ من شروح صديقي المستقاة من خبرته في مجال البناء، ثم قصدنا لافتة نٌصبت قريبا من مدخله لأقرأ ما كٌتب عليها: «لما تمرد اليزيد على أبيه المولى محمد بن عبد الله العلوي، قصد قبيلة بني عروس بأقصى شمال المغرب باعتبارها مقرا للشرفاء وضريحا لمولاي عبد السلام بن مشيش، وباعتبارها تحظى أيضا باحترام وتبجيل جميع القبائل الموجودة بجوارها. وكان هذا اللجوء من أجل أخذ البيعة له من هذه المنطقة كلها، فشرع في بناء قصر له بسفح جبل العَلَم تحت ضريح المولى عبد السلام بن مشيش ما بين عامي 1202 و1204ه- 1787 و1789م. إلا أن هذا القصر لم يُكتب له إتمام التشييد لظروف سياسية. ولازالت جدران قصر اليزيد كأطلال إلى اليوم تشهد على عدم إتمام بنائه»… ومشينا بين أشجار كثيرة ومنازل قليلة قديمة.. اشْقاقرة.. حمْدانيش.. أسماء أسمع بها أول مرة وأماكن لم أرها من قبل…وتقدمنا وفي أعماقي شعور لم أجد بين الألفاظ ما يصفه خير وصف وأحسنه.. مزيج من أشياء منها المفاجأة بدخول الغرفة التي وُلد فيها الصالح مولاي عبد السلام، وهذا ما لم أتوقعه قط، ومنها الفرحة بالوجود في مكان وٌجِد فيه الرجل الزاهد العابد العامل… ولابد أن صديقي مصطفى لاحظ ذهولي، فأسهم إلى جانب الرجل الذي ظننته قيما على المكان في مزيد من إيقاظي وهو يشير إلى لوحة معلقة يسار الصندوق ويقول: الصلاة المشيشية… عندما دخلنا المسجد كان الناس قد فرغوا من صلاة العشاء وشرعوا في ذكر الله عز وجل، صلينا العشاء وجلسنا للمشاركة في الذكر… يا لطيف، يا لطيف، يا لطيف، يا لطيف. تخيلتُ المغاربة داخل القرويين يرددون اللطيف احتجاجا على المحتلين الفرنسيين حينما أصدروا الظهير البربري ليفرقوا به بين المغاربة، العرب منهم والأمازيغ… أمرت نفسي، وأضفت معللا: ليس المقام مقام استحضار للمحطات التاريخية والأحداث السياسية، أنت الآن في بيت الله تعالى، في ليلة لذكره وشكره وعبادته، فلا تصرفنك عن هذا الصوارف. حاولت أن أحصر فكري في هذه اللحظة الروحية، وأغمضت عيني قليلا، واستحضرت بعضا من أخطائي وذنوبي، وأطلقت لساني مع الذاكرين… اشتريت سبحات ومنديلا، وبعض الحلوى التي اشتهرت بها المنطقة، وركبنا السيارة عائدين إلى أصيلا. توقفنا -في طريق العودة- عند عين البغاغزة، وملأنا قوارير من مائها، ثم توقفنا وقفة ثانية بأحد مقاهي قرية «أحد الغربية» لنشرب قهوة قبل أن نستأنف المسير إلى أصيلا التي حملناها في قلوبنا ذهابا وإيابا…» ( ص ص. 14-44).
وعلى هذا المنوال، ينساب السرد ليعيد استنطاق الأمكنة، راصدا أنماط تعايش الثابت مع المتغير داخل نظيمة الحياة الجماعية. وفي ظل هذا النسق العام للسرد، ظل ذكر مدينة أصيلا حاضرا بقوة كخلفية مفسرة لكل عمليات الانطلاق، وكمرجع مؤسس لكل آفاق الإبداع والتدوين لدى المؤلف. وفي ذلك، استكمال لمعالم الصورة العامة المهيكلة لمضامين السرد ومنعرجاته المتداخلة داخل عوالم أبوالخير الناصري وأسئلته الثقافية والمعرفية المركبة والمتشعبة.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 17/04/2024