« أتربة على أشجار الصبار»للروائي عبد الواحد كفيح : عندما يرتبط الحكي بالأرض

 

«دائما ما أقلع الشوك وأزرع وردة
في مكان أتوقع فيه لها أن تنمو»
إبراهام لنكولن

المتتبع لسيرة الكتابة عند القاص والروائي عبد الوحد كفيح، يهتدي إلى كاتب موهوب وحريص على أن يعزز موقعه على خارطة الرواية المغربية والعربية، ونستشف هذا الجهد الواضح والمتميز في روايته «أتربة على أشواك الصبار» الصادرة مؤخرا ضمن منشورات أكورا للنشر والتوزيع، بعد روايته «روائح مقاهي المكسيك»، ومدونتين قصصيتين اختار لهما «أنفاس مستقطعة»، و»رقصة زوربا»، ثم «رسائل الرمال».
جاءت الرواية في حلة قشيبة من 309صفحة، وتتألف من 27 فصلا، وكل فصل مترابط بكلية النص عبر وحدة السارد وحضوره المهيمن، رواية شاملة، تزاوج بين أسطرة الواقع وانتقاده، بين المدينة والدوار، بين الواقع والتخييل الحلمي، بين التيه والاستقرار، بين الأصالة واللاأصالة، بين الحقيقي والعجائبي، وهي مختلفة عن سابقتها «روائح مقاهي المكسيك»على مستوى النفس الروائي واستيحاء الفضاءات والأجواء والشخصيات المندمجة والإشكالية، وتجسيد لصورة الإنسان في صراعه مع الحياة .
المقبل على الدفة الأولى لغلاف الرواية، يثير انتباهه العنوان المعلق في سقفها «أتربة على أشجار الصبار» الذي جاء كالتالي:
أتربة: مفرد تراب وهو ما نَعُمَ من أَديم الأَرض
على: حرف جر وتعني العلو بمعنى فوق
أشجار الصبار: نبات شوكي
ولا تحمل جملة العنوان دلالتها المعهودة، بل إن ما توحي به هو: أراضي فوق الأشواك، واستدعاء هذا الإيحاء تأكيد على ما تعانيه هذه الأراضي وساكنتها من لسعات وأوجاع، مما يؤشر على أن الرواية ستفتح شهيتنا لاستقبال نص روائي يعكس حيوات بعيدة عن المركز في مواجهة الحيف والفقر والحرمان والمرض وصعوبة الترحال والتيهان. وما يشد القارئ عند القراءة الأولى للرواية، هو وجود حكاية متماسكة، تتكئ على حالات لافتة مستمدة من الواقع والمتخيل .
وعليه، يمكن الاقتراب من العناصر البارزة التي تؤطر هذه الحكاية وهذا السرد، وتعطي للنص مميزاته ونكهته.
الفضاءات: لا يمكن الحديث عن الكتابة الروائية في غياب الحديث عن الفضاءات التي تؤطرها، وحين نأخذ زمام الاقتراب من فضاءات رواية «أتربة على أشجار الصبار»، نلاحظ أن أغلبيتها ريفية ومتشابهة في التهميش والدونية، في مقابل «مدينة المؤسسات»، فضاءان رسمهما الكاتب بلمسات دقيقة، ويحتل الريف المغربي وتخوم المدينة _ الحي القصديري الذي لجأ اليه المهجرون من القبيلة أهمية خاصة بسبب مالحق الساكنة فـ»: غادروا حثيثي السرعة، وكل ما استطاعوا حمله على الأكتاف قرب ماء بالية من جلد الماعز وأكياس تكاد تكون فارغة إلا من بعض كسرات خبز يابسة، وحبات حمص مملحة» ص49.
فمن هذا الهامش الريفي وغيره من الهوامش الريفية التي غالت الرواية في الاهتمام به حتى غدت هي الشخصيات الحقة، ومن هؤلاء المهمشين وعوالمهم وطقوسهم ومعتقداتهم وقيمهم، وهم يمارسون حياتهم اليومية ويخوضون صراعهم مع الحياة، ومع شخوص آدميين سيزيدون المشهد قتامة وبؤسا من ذوي النفوذ والضمائر الخائبة، وأعوان السلطة والذين يستغلون موقعهم ليسلطوا ظلمهم على الناس ويسخرونهم مثل الأقنان في أملاكهم التي تتضخم يوما بعد يوم، انطلق قطار الرواية ليحط الرحال في حي قصديري، إذ»: لا صوت يعلو فوق صوت مولانا الخليفة والشيخ والزعيم، ولا رأي بعد رأي الشرع، ولا اجتهاد مع وجود النص» ص 37.
هذا الاهتمام بالريف لن يحجب عن القارئ حضور المدينة بالرغم مما يصل أسماع المرحلين عنها من «قبح وفساد وتهتك وضرب للسلوك الأخلاقي والدجل والنصب والأكاذيب ولا كرامات ولا أساطير ولا هم يحزنون» ص93.
وعليه، تحضر المدينة بكيفيات مختلفة ومتنوعة في الرواية،كفضاء للتهميش والٌإقصاء والغموض واللاأصالة والمكر، بل فضاء مركبا، لهذا تتعدد صورها ووجوهها، فهي ماكرة تارة»: استطاع – بسرعة مذهلة – بحسه البدوي الذكي أن يتغلب في موائد القمار، وأن يفطن لمصائد ومكائد لا عبي الثلاث ورقات» ص117، وتارة ثانية عنيفة، شرسة وبدون قلب، وأحيانا أخرى مترعا و بقرة للخونة واللصوص.
الشخوص: يحتل «بوعزة» الغريب والداهية، الذي نبت بغتة في دوار «أولاد مريم» فـ «ملأ الدنيا وشغل الناس، واستولى على العقول والأفئدة وكبل الألسن، وكمم الأفواه، والتف شخصه الطاغي حول الأعناق وكتم أنفاس كل صوت مجاهر عاق «بإيعاز ومباركة من السلطات المحلية التي يمثلها القايد والخليفة والمقدم والشيخ، وبتحالف مع الفقيه، والفئات المتساكنة، المندمجة والبسيطة في القبيلة التي انطلت عليها لعبة الاستغفال والضحك على الذقون:» وكان سكوت الخليفة والشيخ إيذانا للزعيم في الاستمرار في غطرسته» ص33.
لكن النص، في الآن نفسه، لا يقتصر على صوت الداهية بوعزة وقصة امتلاكه لأراضي الدوار، بل يمتد ليرسم حالة كل من الصالحة وابنهما محمد في القبيلة معارضين للنهب بوعزة والفقيه، ثم مهجرين، = ثم الاستقرار على هامش «مدينة المؤسسات « في حي من للقصدير ومواجهة الحياة ببؤسها المتعدد،ة، ليختار محمد في النهاية أن يكون امتدادا وصورة لبوعزة الداهية في المدينة، ويجمعهما معا الفساد والاحتيال والضمير الخائب : « تمادى محمد بتزكية من الروبيو وأزلامه في بناء صناديق إسمنتية هشوائية مفتوحة على السماء، لا ماء ولا كهرباء ولا مجاري قنوات الصرف» ص277، نفس الشبكة والأخطبوط، واسترخاص الكرامة الإنسانية.
والأكثر منه، تحول محمد لكائن سياسي: «أما المحطة الحاسمة والمفصلية، التي ستغير حياة محمد رأسا على عقب، فهي يوم استدعاء الروبيو، على -عجل، للتشاور والتداول في أمر في غاية الأهمية، ويتعلق الأمر بخوض الانتخابات الجماعية» ص287. ولا شيء يبعث على الغرابة في مدن بلا ضمير ولا كرامة سوى التتفيه، وهي لعمري، نبرة هجائية للمدينة وطحالبها التي تعرف طريقها إلى الفساد بنباهة.
ثم صوت الصالحة التي لا يتقن الحاج الكهل حراثة جسدها الشبق، مسرفة ومفتونة بالجسد واللذة، عشقت الشرقاوي الرزين والشهم حد الثمالة، بل وتحدت الحاج في الجهر بهذا العشق»: استفحل فيها حب الشرقاوي لدرجة مرضية، حيث بدأت تنتابها كل ليلة حمى مفاجئة» ص183
هذا العشق الجنوني سينتهي بجريمة نكراء، انتقمت الصالحة خلالها من فشلها في استمالة الشرقاوي، ثم ومن زوجها الحاج الذي بالغ في إهانتها وازدرائها وإطفائها :» اندفع نحو البيت مهرولا، فتعقبته ثابتة الخطو، وسددت له، بدم فائر حار، طلقة واحدة مركزة بين الكتفين» ص220.
*لغة السرد : جاءت لغة تغرف من الوسط الذي تتحرك فيه الشخوص ، فالكثير من اللكنات شديدة القرابة بالريف على امتداد صفحات الرواية :» الراعي، القبيلة، الدوار، المرس، الفلاحون، الماشية، قطعان الغنم…»، ثم هناك لغة الفقيه المترجمة للخطاب الديني وتوظيفه لتضليل وتضبيع بسطاء «أولاد مريم» بغاية استنزافهم وابتلاع أراضيهم :» لا صوت يعلو فوق صوت مولانا الخليفة والشيخ والزعيم، ولا رأي بعد رأي الشرع، ولا اجتهاد مع وجود النص» ص37، كما تشتغل اللغة المحكية العامية في الرواية، فهي تضطلع الى جانب وظيفتها التناصي، وبتأكيد ارتباط الرواية بالحياة اليومية، نقرأ في الصفحة 335: «مع كل احتراماتي نعام السي الجدارمي، اللي اغلب يعف» ص 335.
في هذا المقطع اتجاه واضح نحو تفصيح الدارجة والتقريب بينها وبين الفصحى وهذا التنوع يخترق الرواية ككل، مما يشيد تعددا لغويا أضفى على الرواية طابعا حواريا متميزا، في ضوء هذا التوجه نفهم احتفاء الكاتب بفسيفسائه اللغوية التي أفرزها القاموس اللغوي للمجتمع المغربي وأنماط الوعي المتصارعة .
في الختام، تبدو رواية «أتربة فوق أشجار الصبار» على صلة بالتجربة الروائية المغربية في كتابة الريف، ونستحضر هنا «عزوزة» لزهرة رميج، على سبيل المثال. ويمكن أن نعدها اشتغالا على جماليات الألم، فهي تنسج عوالمها ومناخاتها من هذه الأيام الموجعة والمتعبة التي تحيط بنا في المدينة والريف، وتوخزنا بألم، ولعلنا بهذا الاستنتاج نلتقي مع اسم الرواية الذي علقه الكاتب في سقف الغلاف «أتربة على أشجار الصبار»، والتي قد تعني تلك الأراضي، وذلك الإنسان الذي يداول أيامه وأوجاعه وأحلامه كما لو فوق نبات شوكي يسمى الصبار.


الكاتب : عبد لله المتقي

  

بتاريخ : 26/06/2021