« أسرار الفراشات» ليوسف فاضل ست حيوات تتماس وتتقاطع

 

في مسار تقاطع تجاربنا الحياتية لا نرصد كل تفاصيل التأثيرات المختلفة التي نتركها في ذوات بعضنا البعض، لا نحس بمدى الانعكاس الذي تخلفه ارتباطاتنا المجتمعية، سلبا أو إيجابا، في ما تعرفه حيواتنا من تحولات .
في كل محاولات الرصد التي نقبل عليها، ندرك إلى أي حد يتحقق التفاعل داخل محيط اجتماعي مفتوح على تجارب إنسانية موسومة بالخصوصية والتفرد، نحس في كل ذلك بالعلائق التي تربطنا، وإن كنا نرغب في بعضها أو يتملكنا النفور من البعض الآخر، تنقصنا الجرأة أحيانا لوضع حد لما لا نقوى على مسايرته أو على صد كل تجاوزاته. في كل ذلك نحتاج إلى نفس متبصر لكي نقوى على مسايرة ما نعتبره من تداعيات الحياة.
في رواية «حياة الفراشات» يعرض يوسف فاضل ست حيوات متقاطعة المآلات، تعيش تماسا معيشيا في محيط مجتمعي متسم بالمحافظة ومحدودية مساحة الروابط الوجدانية، يضاعف من شوائبه انحسار مجالات التفاعل وصرامة الانسياق في ما يعتبر إطارا مرجعيا لكل المسلكيات . «هاني» يتربص بحبيبة دون ملامح واضحة تدل على مراميه، تحس بخطوه يلاحق طيفها كلما غادرت البيت في اتجاه مقر عملها « لا يعرفان عن بعضهما شيئا …. لا أحد منهما يعرف الآخر ، ويسيران معا كصديقين قديمين حميمين …لا أحد لديه أدنى فكرة عن الخطوة القادمة، لا أحد يملك أدنى فكرة عما يفكر فيه الآخر ، أو يزدريه أو يرغب فيه». ينتج عن ذلك علاقة لها معناها الخاص عند لكل واحد منها. حبيبة ترى فيها رفقة هي في حاجة إليها وهي «تتطلع إلى الوصول إلى معمل النسيج، تحن إلى أن تنجو بجلدها من مصيدة تعرف أنها ستقع فيها»، بينما رغبة هاني أن لاتصل المرأة إلى معمل النسيج كما تتصور: «معا يعبران ذات المسافة في صمت، تتحسس أنفاسه ووقع خطوه ويشم رائحة ضعفها ودنو استسلامها « . واثق أن عافيته وعنفوانه يحاصرانها بشكل لن يترك لها مسافة للمناورة فجر كل يوم.. يشل الخوف تفكيرها وهي تنتظر الأسوأ من طيف يتعقبها، ألفت رفقته وصار حاضرا في كل لحظات يومها، تتطلع لأن تراه في انتظارها كلما غادرت البيت في اتجاه المعمل، يسيطر على تفكيرها مآل كل تصرفاته وهي في موقع عملها. وحتى وهي تستعيد بعضا من ذكريات أيامها، يطفو طيفه ليعيدها إلى واقع حالها، تقتفي كل ما جد من افتعال لسلوك مغاير ترافقه بالتأويل وحصر معناه. هكذا صارت حياة حبيبة مركبة من علاقات تختلف في وقعها وموقعها. فما يربطها بوالدها عاشور وأخيها سالم ورئيسها في المعمل حجاج، له تداعياته وقوة تأثيره في ضبط إيقاع ردود فعلها أو ما تعتبره يستقيم مع موقعها ومقامها، فسياق علاقتها بكل واحد من هؤلاء قادها إلى تحديد زاوية النظر التي تقارب بها مناحي الحياة، وتعطي لكل تصرفاتها معنى يتيح في التقدير ربطها بمحيطها المجتمعي وتملك ما يتلاءم والسلوك العام. محاولات هاني في إثبات ذاته كشاب غادر قريته بإغراء من خاله الذي يطمح إلي أن يجعل منه بطلا في المصارعة، يتحسس ذاته ويكبر طموحه في أن يحقق مبتغاه ومنى خاله في التألق وحصد البطولات، يتعقب حبيبة ليؤكد لها أنه موجود في دائرتها ويزداد يقينا بأنه أصبح على مرمى خطوة مما يعتبره « البداية التي يتمنى كل واحد أن يستهل بها مشروع حياته « هكذا يرى حبيبة في ملكه ولا مفر من مصير اختاره لها « أغادر الغرفة عند كل فجر لأراها، ولترى أنني أراها وأتعقبها. لقد جعلت من هذه المراقبة سلاحي الذي سيهزمها في النهاية». يترصد حجاج رئيس الأشغال في المعمل كل حركات حبيبة بطريقته الخاصة، يشعرها باستمرار أنه الوحيد الذي يمكن أن يجعل حياتها أكثر استقرارا وأمنا، هي لا تأبه لوجوده كعاشق ينتظر فرصة الاستفراد بها. « أحوم حولها كالكلب وهي غير مهتمة … كأنما لا تفهم ما لا أجرؤ على الجهر به، لا تفهم ما يفهمه معظم النساء بلا جهد» هكذا يتراءى له أن قوة سلطته لم تمكنه من إخضاع مرؤوسته لحقيقة رغباته ، حلمه أن يعيش معها « حياة هادئة وجدية ودائمة» لا يعرف بعد شكلها وإنما يتصورها مدخل طريقه إلى ضفة أخرى. هي لا تراه أكثر من رئيس مباشر يحرص على أن يسير العمل في أحسن الأجواء، يراقب مواظبة العاملات ومردوديتهن، وتحرص هي على أن تقوم بعملها مقابل ما تتلقاه من أجر. حجاج كهاني يطاردها بنظرات وسلوكات يسعى من خلالها دفعها إلى الإذعان. هكذا تعيش حبيبة بين عوالم حياة مثقلة بالترصد والمطاردة، وهواجس الرغبة في أن تعيش حرة طليقة غير عابئة بعوالم والدها عاشور، المهووس بالحديث عن بطولاته في الفيتنام حين التحق بالثوار هاربا من صفوف الجيش الفرنسي المحتل لبلاد الهند الصينية، وكيف صار قائدا عسكريا يستقطب الجنود المغاربة من الجيش الفرنسي ليلتحقوا بالثوار. ثم بقيادته للنضال النقابي في الاتحاد المغربي للشغل وأدواره في تأطير العمال وتطوير وعيهم السياسي والنقابي، يطيب له في جلساته الخمرية أن يعيد على أسماع ندمائه حكايات صباه ومغامراته العاطفية وبطولاته في بلاد الهند الصينية، هكذا يجد ملاذه ليستمر في الحياة « يقدم لهم شرابه الرخيص وحكاياته البالية وتهريجه الفاجر. وفي المقابل يمتص قسطا من حيويتهم وعافيتهم». تزور والدها عاشور في بيته من حين لآخر كلما عن لها أن تستعيد جزءا من ظلال طفولتها، ولتؤكد لذاتها أن لها أصولا تعطي معنى لحياتها، وترسم بعدا حميميا لعلاقتها بأخيها سالم، الفنان المشغول بسبك إيقاعاته الموسيقية والحالم بأن تصل ألحانه إلى أرقى مستوى من الإبداع والإمتاع، ليس له متسع من الوقت ليبادل أخته ذات الاهتمام الذي تخصه به، وقد زاد انشغالها بأحواله بعد أن أصبح مسكونا بهواجس تورطه في وقائع الانقلاب العسكري، الذي صادف وجوده بمقر الإذاعة الوطنية لحظة سيطرة الجيش على منافذها، وأرغموه على تلاوة بلاغهم العسكري حول الثورة التي كانوا ينشدونها في مطلع السبعينات ، بينما كان يسارع الزمن لتسجيل ثالث أغانيه مزهوا بما كان قد انتهى إليه تعبيره الوجداني وترانيمه المتناسقة. تاريخهما المشترك كطفلين عاشا في كنف عمهما المدني بعد أن أصبح والدهما مطاردا على إثر تورطه في جريمة قتل، لم يجد بدا بعدها غير الانخراط في السلك العسكري الفرنسي حيث أشرك كضابط صف في حرب الهند الصينية ضد هوشي مين ورفاقه.
لحظات التلاقي ببين مختلف شخصيات الرواية متعددة، شعورهم مشترك بانتمائهم لذات الفضاء الاجتماعي والشروط الحياتية المرتبة وفق أحكام وأعراف ولكن عوالمهم مختلفة، لكل مساره الخاص الذي يميزه ويجعل من شرطه الذاتي أساس حضوره في النص، باستقلال عن باقي الشخوص التي تصبح مكونا من مكونات الواقع الموضوعي، بما هي مؤثرة ومتأثرة ، يحكم سلوكها وعي عام بما تقتضيه الضرورة لتحقيق التواصل والحفاظ على نوع من العلاقات.
ما يجعل حبيبة شخصية محورية في الرواية هو حجم معاناتها في تفاعلها مع محيطها، فهي عرضة للتحرش والمراقبة في كل تفاصيل يومها، ليس لها مجال للتعبير عن ما هي حقيقة في حاجة إليه وترغب فيه. في المقابل ساير هاني أحلام خاله وانخرط في نادي المصارعة ، وحرص على أن يهيئ نفسه لخوض كل المباريات الحاسمة التي ستفتح له المجال لتحقيق حلمه في أن يكون بطلا لا يقهر وذا مكانة اجتماعية في كنف أسرة .
الرواية لا تخلو من حكايات تختلف وقائعها، تعكس التفاعل المتعدد الجوانب بين الأشخاص ومحيطهم وتنوع ردود فعلهم، وهي بذلك تحيل على حيوات تتقاطع مساراتها وتتبادل تأثيراتها، دون إدراك مدى ما تخلفه سلوكات البعض في محيطه وما ينتج عنها من ردود فعل نفسية واجتماعية.
رواية « حياة الفراشات» الصادرة عن منشورات المتوسط الإيطالية سنة 2020 لها ذات الخصوصية التي ميزت أعمال يوسف فاضل الروائية، وتحمل كل سمات كتاباته التي تعتمد أسلوبا في السرد يبتعد عن الحكي الرتيب في تناول الوقائع وبسط الأحداث، هي تعبير عن أجواء عامة تحيل على واقع بكل مظاهره وظواهره ، وتكشف تفاعل شخوص من فئات مختلفة مع تعقيدات العلائق المجتمعية في تقابل مع شرطها الذاتي وقدرتها على الانصهار ،وخلق المسافات الضرورية لتحقيق التمايز وابراز الاختلاف ، شخصيات نقابلها دون ما حاجة للغوص في تفاصيل حياتها، بل تحيل في تدبير أمرها على واقع يحمل ذات السمات وينتج وقائع ذات تأثيرات مختلفة على الذوات ، وهو ما تعكسه ردود الأفعال المتباينة والمواقف الفارقة. الرواية في تركيبتها وهندسة أبوابها آو فصولها، تعرض واقعا بكل ملابساته وحيثيات تواتره، بعيدا عن كل إيحاء يقود إلى تأويل مرغوب، أو توجيه يسعى إلى إبراز معنى خاص يقود إلى خلاصات ذات قصد في التأثير. فلكل شخصية مجالها وتفاصيل ردات فعلها أو تفاعلها، دونما حاجة إلى حصر النهايات وربط مصائر الشخوص، فالمسارات المختلفة تتقاطع في تماس وانفعال ، تماما كما يعيش الناس بهجة وقنوط الحياة.


الكاتب : أحمد حبشي

  

بتاريخ : 12/03/2021

أخبار مرتبطة

  قد تحمل الحرب الإسرائيلية الجارية علnى قطاع غزة  المفكر المغربي المعروف عبدالله العروي على التفكير في كتابة الجزء الخامس

تعني الكتابة في ما تعنيه، أن تتواجد في مكان آخر بينما أنت قابعٌ في مكان مّحدد المعالم، أي أن تكون

يرتقب أن تستقبل مؤسسة»أرشيف المغرب» معرضا خاصا بمسار عبد الواحد الراضي، القيادي الراحل في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وقبله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *