أقاصيص .. تأمـلات في حالـة شـرود

 

اغتيال

لأول مرة، يحدث أمر كهذا للشاعر، القصيدة تستعصي وتتمرد عليه، لا تسعفه البتة رغم أنها أو بالأحرى فكرتها، تسكنه وتتغلغل في كيانه. أينما سافر وأينما حل وارتحل، هي معه لا تفارقه البتة. يحسها مكتملة، مكتملة البناء في مخيلته، لكنها ترفض وتأبى التشكل على بياض الورقة.
سهر شاعرنا الليالي تلو الليالي.عانى الأمرين، إلا أن فترة المخاض طالت، وعملية الولادة استعصت، عندها أدرك بحدسه الشعري، الذي قلما خذله، أن وراء حالة العصيان، أو التمرد هاته، سببا هو مدركه، إن لم يكن في العاجل من الوقت، ففي الآجل منه على الأرجح.
ذات جولة مشيا على الأقدام، كما هو طقسه ساعة من كل مساء، اصطدم بالحقيقة الكامنة وراء اغتيال قصيدته، وهي بعد في الرحم. اصطدم بها ورآها بأم عينيه رؤية واضحة، وضوح البدر في ليلة مقمرة.
لقد ضبط الشاعر معشوقته، بطلة مشروع قصيدته في حالة تلبس مع عاشق غيره، أديب هو الآخر، يرصع بأنامله، – عوض القصائد – الروايات والقصص.

غرفة

كان باب المنزل القروي الكبير، ذو الغرف الكثيرة مواربا، عندما ولجه رجل جاوز عقده الخامس.كان أنيق المظهر وحليق الوجه، والجلباب الذي يستر جسده ناصع البياض، وبالغطاء الملتصق به، كان يخفي رأسه وجزءا من جبهته. كان يتقدم مطأطئا من الخجل أو الاستيحاء، صوب الغرفة الصغيرة المنزوية يسارا خلف المطبخ التي اقتحمها على مرأى من الكل، تاركا خلفه جموعا من النساء، والأطفال والرجال أيضا..
إن هي إلا لحظات، حتى فتحت من جديد، الغرفة المنزوية يسارا، ليغادرها الشخص الخمسيني، الأنيق المظهر والحليق الوجه، الذي لم يعد قب جلبابه الناصع البياض يغطي رأسه، التي غدت شامخة صوب السماء.دفع صدره إلى الأمام، وكالطاووس أخذ يتبختر في مشيته قاصدا الباب الذي كان لا يزال مواربا..
فوق سرير الغرفة ذاتها، كانت الضحية، ذات الخمسة عشر ربيعا، تستلقي على ظهرها بكسوتها الناصعة البياض أيضا.وكعائدة من معركة، أخذت تسترجع أنفاسها، ماسحة بمنديل مطرز دموعا أخذت تغادر مقلتيها، دموعا وحدها تستشعر عمق مرارتها، عندما هبت نسوة وأحطن بها، ثم انطلقت حناجرهن ودوت، تخطت أصواتهن الصادحة، الجدران والحيطان، حتى بلغ صداها كل الآذان.. لكن أحدا لم يهرع لعين المكان للاستفسار أو السؤال، لأن هذه الحناجر لم تطلق سوى الزغاريد تلو الزغاريد..

سيارة

كان ينتظر الحافلة، المتجهة صوب الكلية، حين وقفت قبالته سيارة. فتح سائقها نافذتها، وبإشارة من يده، أفهمه أنه بحاجة إلى مساعدة. اعتذر للفتاة التي كانت بصحبته، مقررا أن يرد قسطا بسيطا من جميل وافر، سبق وأسداه له طالب الخدمة، الذي لم يتذكره.
سلم محفظة كتبه لزميلته، التي يأمل ويطمح في أن تصبح صديقته. شمر على ساعديه ثم شرع يدفع السيارة من الخلف والسائق بداخلها يكابد ويجاهد معها، وهي تعاند، تتحرك حينا وتتوقف آخر.تتحرك مجدداثم تتوقف إلى أن تغلبا معا على عنادها، إذ عادت الحياة إلى محركها، وصار بمقدورها أخيرا مواصلة الطريق. وبإشارة من خلف النافذة المفتوحة، شكره السائق أستاذه القدوة، الذي تتلمذ على يديه قبل ثلاثة أعوام.
عاد أدراجه لاهثا جراء المجهود المضني الذي بذله. وجد محفظة كتبه مرمية على الأرض ولم يجد مرافقته.جال ببصره بين الواقفين بمحطة الحافلات ولم تكن ضمنهم. نظر خلفه بإيعاز صامت من بعض الواقفين، الذين التفتوا متأملين، فالتفت هو أيضا ليرمقها تركب سيارة.. السيارة ذاتها التي قدم منذ لحظات خدماته لسائقها، مدرسه سابقا بالثانوي.


الكاتب : عبد الحق السلموتي

  

بتاريخ : 17/04/2024