أمريكا والمغرب.. ضفتان في التاريخ وفي الأطلسي (5)

توقيع معاهدة «السلم والصداقة» يوم 15 يوليوز 1786

 

كيف يمكن تمثل قصة العلاقة بين المملكة المغربية والولايات المتحدة الأمريكية كما تحققت في التاريخ المعاصر والحديث؟. ما هي أبعادها سياسيا وحضاريا وأمنيا وتجاريا؟. لماذا بقيت حقيقة العلاقات بين البلدين سجينة كليشهيات عناوين كبرى، دون الغوص في تحليل المعنى التاريخي لتلك العلاقة النوعية والخاصة؟. أين يكمن السر في كل الرسوخ الإستراتيجي للعلاقة بين واشنطن والرباط؟. وما الذي يشكله «لوبي التاريخ» في تجسير تلك العلاقة بين الدولتين؟. ثم ما الأهمية التي للجغرافية في العلاقة بين طنجة وبوسطن، وبين الدار البيضاء ونيويورك، وبين الصويرة وفلوريدا؟.
إنها بعض من الأسئلة التي تحاول هذه المادة الرمضانية أن تجيب عنها، من حيث هي تحاول رسم خط تاريخي لميلاد وتطور العلاقة بين المملكة المغربية والولايات المتحدة الأمريكية. نعم، هي تستحضر أكيد، أن عين درس التاريخ المغربي ظلت دوما مصوبة باتجاه الشمال المتوسطي في أبعاده الإسبانية والبريطانية والفرنسية والألمانية، وهي تحاول أن تنزاح قليلا صوب غرب المغرب باتجاه عمقه الأطلسي، من خلال مغامرة نبش الغبار عن ذاكرة العلاقات بيننا وبين بلاد «العم سام». ففي ذلك تفسير آخر للكثير من القصة المغربية (الدولة والمجتمع) في التاريخ الحديث والمعاصر وضمن مهرجان اصطخاب المصالح بين القوى العالمية، التي جغرافيته مجال من مجالات تقاطع تلك المصالح.

 

كان المبعوث الأمريكي توماس باركلي، القادم من فرنسا حيث كان قنصلا لبلاده بها، قد التزم بذات الإستراتيجية الأمريكية المتمثلة في إشراك طرف أروبي في أي اتصال مع المغرب ومع ولايات الجنوب المتوسطي العثمانية (الجزائر، تونس، طرابلس)، حيث توجه بداية صوب العاصمة الإسبانية مدريد، التي وضع رئيس حكومتها فلوريدا بلانكا في صورة مهمته التي كلفته حكومة بلاده للقيام بها في مراكش. فتم تسليمه رسالة من ملك إسبانيا حينها، سنة 1786، كارلوس الثالث موجهة إلى السلطان سيدي محمد بن عبد لله توصيه خيرا بالمبعوث الأمريكي وتعلي من أهمية عقد صلح مع بلاده. بالتالي، فقد غادر توماس باركلي ميناء قاديس بالجنوب الإسباني يوم 27 ماي 1786، متوجها صوب ميناء مدينة طنجة، ومنها سيتم بعثه مع حراسة خاصة من ممثل دار المخزن بها صوب مدينة مراكش حيث يتواجد السلطان، التي وصلها يوم 19 يونيو 1786، واستقبله سيدي محمد بن عبد لله أسبوعا بعد وصوله إلى مدينة يوسف بن تاشفين، ليكلف المسؤول المغربي في بلاطه الطاهر فنيش السلاوي بمباشرة المفاوضات مع المبعوث الأمريكي، التي دامت ثلاثة أسابيع، انتهت بالتوقيع على أول اتفاقية «سلم وصداقة» بين المغرب والدولة الجديدة الولايات المتحدة الأمريكية، متضمنة 25 فصلا، ممتدة على خمسين سنة قابلة للتجديد من الطرفين، وهو التوقيع الذي تم يوم 15 يوليوز 1786 (سيصادق عليها الكونغرس الأمريكي شهورا بعد ذلك في بداية سنة 1787). وقعها عن الجانب المغربي، كما هو متبث في نسختيها الأصليتين العربية والإنجليزية، الطاهر فنيش وعن الجانب الأمريكي توماس باركلي. باركلي الذي سيتقرر تعيينه خمس سنوات بعد ذلك، في سنة 1791، أول قنصل عام لواشنطن بالمغرب، لكن اضطراب الأحوال السياسية بعد وفاة سيدي محمد بن عبد لله سنة 1790، وتولي المولى اليزيد الحكم، قد أخر تنفيذ ذلك التعيين، حيث بقي بالجنوب الإسباني مدة طويلة في انتظار تيسر الأمور للعبور إلى الضفة المغربية، إلى أن توفي بها يوم 19 يناير 1793، دون أن يلتحق أبدا بطنجة ليمارس فيها مهمته الديبلوماسية المكلف بها (المرجع كتاب «العلاقات المغربية الأمريكية» للأستاذ محمد بنهاشم).
بالعودة إلى أرشيف مكتبة الكونغرس الأمريكية اليوم، في موقعها الرسمي على شبكة الأنترنيت، نجد ضمن خانة «المعاهدات والإتفاقيات الدولية للولايات المتحدة الأمريكية»، ترتيبا مدققا لكل المعاهدات والإتفاقيات الدولية لواشنطن (كل على حدة) منذ سنة 1776 ميلادية، ضمنها تلك المبرمة مع المملكة المغربية. في مقدمتها معاهدة 1786 والإتفاقية التعديلية لسنة 1836، واتفاقية إنشاء منار رأس سبارتيل بطنجة سنة 1864 وغيرها كثير. ولعل أهم ملاحظة يخرج بها المطلع على معاهدة 1786 المغربية الأمريكية، في ترجمتها الفرنسية، هو أنه يغلب عليها الطابع العام الذي يميز أي معاهدة تأسيسية أولى لترسيم العلاقات بين بلدين وحكومتين، حيث تشكل البنية اللغوية لفصولها مجالا لتحديد آليات تنظيم تلك العلاقة مؤسساتيا وديبلوماسيا، وكذا تحديد آليات التعاون سواء السياسية أو الأمنية أو التجارية، دون أن تغرق في التفاصيل الدقيقة لملف بعينه. بل هي في غالبيتها شكل من أشكال ترسيم سقف التعاون والإلتزام بين البلدين. وأن ذلك السقف يشمل الآلية الديبلوماسية وشكل ترجمتها على أرض الواقع من قبيل فتح السفارات والقنصليات ومجالات تواجدها وأدوارها بما فيها الشق القضائي.
لكن أهم ما جاء في أول معاهدة للصداقة المغربية الأمريكية تلك الموقعة في 15 يوليوز 1786، هو تنصيصها على اعتبار دولة الولايات المتحدة الأمريكية تحظى بصفة «الدولة ذات الإمتياز» مغربيا، مما جعل المدخل المغربي بالنسبة لكل ما هو أمريكي (أمني أو تجاري) بوابة راسخة وآمنة للإنفتاح على جنوب المتوسط وعلى الصحراء الكبرى. وأن لها الحق في اختيار من تراهم مناسبين لمصالحها من ممثلين تجاريين مغاربة وتراجمة (أغلبهم من التجار اليهود المغاربة أو من جبل طارق)، وأنه لا يجوز تحديد أنواع التجارة المسموح بممارستها عدا تلك التي تتعارض والمصالح التجارية الحيوية للمغرب على مستوى التصدير (القمح والشعير أساسا). علما أن من أهم واردات التجارة الأمريكية، عبر سفنها التجارية الخاصة والجديدة، ذات الإستقلال عن الرايات الأروبية سواء البريطانية أو الإسبانية أو الفرنسية، والتي لم يكن سهلا السماح لها بالولوج إلى الفضاء المتوسطي حينها، يتمثل في مواد القمح والسمك وشمع النحل والأخشاب والقطاني والأرز والبصل والعنب وقصب السكر (فيما كانت أغلب صادرات المغرب إلى السوق الأمريكية عبر ذات السفن، تتمثل في ريش النعام، الملح الأبيض والملح الأحمر، الزيوت ومشتقاتها والجلود).
إن أهم ملاحظة تسجلها كل المراجع التي اشتغلت على أشكال تأسيس العلاقات الديبلوماسية بين واشنطن والفضاء المتوسطي الجنوبي، هو أن المملكة المغربية لم تنافح كثيرا في مسألة الإتاوات والتعويضات المالية لقبول توقيع معاهدة 15 يوليوز 1786، مقارنة مع ما تم مع «داي الجزائر» أو «باي تونس» أو «باشا طرابلس»، عشر سنوات بعد ذلك. لأنه بالمقارنة بين الأرقام المسجلة والموثقة في الأرشيفات الأمريكية، فإن الإتاوة المقدمة إلى المغرب لم تتجاوز 5 آلاف دولار، فيما بلغت تلك الإتاوة في الإتفاق مع «داي الجزائر» 642 ألف دولار، وفي الإتفاقية مع «باشا طرابلس» 56 ألف دولار، وفي الإتفاقية مع «باي تونس» 107 آلاف دولار. مما يجد تفسيره، في أن سلطان المغرب كونه هو المبادر إلى الإعتراف باستقلال الولايات المتحدة وإلى ترسيم العلاقات معها عبر معاهدة (وليس اتفاقية)، كان يضع الأمر ضمن أفق استراتيجي للإنفتاح على سوق جديدة ودولة جديدة لا تمارس ذات الضغوط والشروط التي تمارسها دول مثل بريطانيا وإسبانيا وفرنسا. أي ما يوصف في العلاقات الدولية اليوم بـ «تنويع الشركاء». بالتالي فإن الغاية كانت سياسية بالأساس. وسيجد ذلك صداه في الرسائل المتبادلة بين السلطان سيدي محمد بن عبد لله وأول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية جورج واشنطن، الذي أرسل خطابا إلى السلطان المغربي مباشرة بعد تعيينه رئيسا في أبريل 1789، يقدم له فيه شكر الأمريكيين على توسط المغرب لفائدة مبعوثي بلاده إلى كل حكام الإيالات العثمانية بشمال إفريقيا بغاية توقيع اتفاقيات تعاون معها بعد ارتفاع هجومات القراصنة من موانئ تلك الإيالات خاصة من ميناء الجزائر وميناء طرابلس. معددا له فوائد التجارة مع بلده أمريكا الغنية فلاحيا، واعدا إياه أنه سيظل صديقا وفيا له وللمغرب الذي يقدر له تشجيعه للتجارة الأمريكية في الموانئ المغربية، ومستعرضا أيضا متاعب التأسيس الإداري ببلاده الحديثة العهد بالإستقلال. فيما كان السلطان سيدي محمد بن عبد لله قد بعث رسالة إلى القيادة الأمريكية، مباشرة بعد توقيع معاهدة «السلم والصداقة» مع المبعوث الأمريكي توماس باركلي، مما جاء فيها بالحرف، كما وردت في كتاب «التاريخ الديبلوماسي للمغرب» للمؤرخ والأستاذ عبد الهادي التازي رحمه لله: «إلى كبير الإصطادوس الماريكانوس البريزضنت، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد. فقد وصلنا كاتبك طوماس بركلي وبيده كتابك وكتاب عظيم إسبانيا كارلوس، فقرأناهما وعرفنا ما فيهما من طلبكم الصلح معنا، مثل أجناس النصارى المصالحين معنا. فقد قبلنا ذلك وجعلنا بيننا وبينكم الصلح والمهادنة برا وبحرا على الشروط التي طلبتم منا، فقبلناها وأثبتناها في الدفتر ووضعنا عليها طابعنا الشريف. وأمرنا جميع خدامنا الذين بمراسينا أن مراكبكم وتجارتكم التي ترد لمراسينا يفعل معهم عمالنا مثل ما يفعلونه مع الأصبنيول على الأمن والأمان معكم وعلى المعاهدة والصلح التامين. والسلام».
بعد وفاة السلطان سيدي محمد بن عبد لله سنة 1790، في طريقه من مراكش إلى الرباط (بمنطقة عين عودة)، سينعيه المحرر الرئيسي للدستور الأمريكي توماس جيفرسون (وثالث رئيس للولايات المتحدة الأمريكية ما بين سنوات 1801 و1809) أمام الكونغرس الأمريكي، مشددا على ضرورة الحرص على حماية استمرار تنفيذ معاهدة السلم والصداقة مع خلفه في الحكم، مبديا تخوفه من عودة تأثير القرصنة ضد السفن الأمريكية بشمال إفريقيا، بعد وفاة ذلك السلطان المغربي. وهي التخوفات التي ستتحقق فعليا على أرض الواقع طيلة العقد الأول من القرن 19. مما دفع لأول مرة الدولة الأمريكية الوليدة والجديدة، إلى أن تختار على عهد ثالث رؤسائها توماس جيفرسون (المعروف بتشدده وميله إلى الخيارات العسكرية)، إرسال سفن حربية إلى البحر الأبيض المتوسط، موجهة أساسا ضد القرصنة الليبية والجزائرية، مكونة من ستة سفن حربية هي التي ستشكل النواة الأولى لما أصبح يعرف اليوم في البحرية الأمريكية بـ «الأسطول السادس»، الذي هو أسطول عسكري أمريكي متوسطي في المقام الأول.


الكاتب : لحسن العسبي

  

بتاريخ : 22/04/2022