أنفاس مسرحية و صور توثيقية تعلن في الدار البيضاء عن الاحتفاء بذاكرة المسرح البدوي

 

يشكل الاحتفاء بذاكرة الأسماء المسرحية خاصة منها الراحلة و التي أسست للفعل المسرحي ببلادنا، ممارسة ثقافية مطلوبة ليس فقط للاعتراف بإنجازات هذا العلم المسرحي أو ذاك و رصد أهم إسهاماته في التأسيس للتجربة المسرحية بالمغرب، و إنما أيضا لجعلها مبادرة لتثمين ما خلفه الرواد الأوائل في مسرحنا المغربي من أعمال فنية مسرحية كان لها تأثيرها الواضح ولازال في تشكيل المشهد المسرحي العام بالمغرب لعقود طويلة امتدت بداياتها عند البعض إلى النصف الأول من القرن العشرين.
ضمن هذا السياق شهد المركب الثقافي سيدي بليوط بالدار البيضاء ، انطلاق فعاليات أسبوع تخليد الذكرى الثانية لرحيل أحد أعمدة المسرح المغربي التاريخيين الفنان و المسرحي عبد القادر البدوي ،الذي امتد إلى الأحد 03 مارس 2024. هذا الاحتفاء نظمه مسرح البدوي بتعاون مع المسرح الوطني محمد الخامس و بتنسيق مع مقاطعة سيدي بليوط .
وقد كان اليوم الافتتاحي مناسبة حاول من خلالها المنظمون التناغم مع رمزية الحدث و عمقه الدلالي، بما يخدم رهان التعريف بقيمة و أهمية المسار و الزخم المسرحي الذي خلفه الراحل عبد القادر البدوي بعد عقود طويلة من الممارسة المسرحية و التي يمكن التأريخ لبداياتها منذ خمسينات القرن الماضي.
و حرصت اللجنة المنظمة أن تجعل من هذه الموعد الاحتفائي محطة مهمة للتعريف بجوانب من الذاكرة المسرحية و الفنية للراحل عبد القادر البدوي ،حيث تم افتتاح معرض توثيقي يضم عددا من الصور المؤرخة لمشاهد لمسرحيات عرضها الفنان الراحل على مدى سنوات طويلة من الفعل المسرحي، إلى جانب عرض عدد من الصيحات الإعلامية و الفنية التي سبق للراحل أن أدلى بها في مناسبات ثقافية عديدة.
المتتبع لأغلب هذه التصريحات المعروضة على لوحات خاصة في المعرض ،يقف على عمق الانشغال المسرحي الذي رافق الراحل عبد القادر البدوي طيلة رحلته الفنية، خصوصا ما كان يتعلق بدعواته المتكررة إلى القطاع الوصي على الثقافة ببلادنا، من أجل العمل على دعم التجارب المسرحية الأصيلة ذات البعد الوطني الناطقة بتحولات المجتمع المغربي و الراغبة في مساحات حقيقية للتعبير و المبادرة دون أي منطق إقصائي حسب ما يستشف من صيحات الراحل.
و قد كان الجمهور والفاعلون الثقافيون و المهتمون بالفن المسرحي على موعد مع محطة احتفائية ثانية بذاكرة الفنان الراحل و ذلك عبر معانقة أنفاس مسرحية من الأرشيف المسرحي الخاص بمسرح البدوي، من خلال مشاهدة عرض مسرحية “في انتظار القطار” وهي دراماتورجيا مسرحية خاصة بالراحل عبد القادر البدوي و بإخراج حالي للمخرجة و رئيسة المسرح البدوي الفنانة حسناء البدوي، أما التشخيص فشاركت فيه إلى جانب هذه الأخيرة كوكبة من الممثلين المنتمين في أغلبهم إلى مدرسة مسرح البدوي و الذين عملوا على إحياء روح هذا العمل المسرحي الذي يعود عرضه الأول إلى سنة 1962.
لقد وجد الجمهور الحاضر نفسه في لحظة تفاعل و تناغم ملحوظ، مع حجم سردية مسرحية تبدو أنها تحتفظ براهنية كبيرة إلى الآن، بعد أن اتضح من خلال العرض المقدم أن الراحل عبد القادر البدوي قد اختار محطة قطار منسية في أقاصي المغرب العميق سنوات الستينات لتكون فضاء مسرحيا منبعا تنبع منه أحداث و تلتقي فيه شخوص ليعبر هذا الالتقاء عن حركية اجتماعية و ثقافية وسياسية معينة شهدها مغرب بداية الاستقلال، بعد أن يجد الشاب الحالم بهوامش من التعبير الحر في مناخ مغربي تاريخي عام كان ينزع إلى رفض الأصوات الحالمة بالمشاركة أكثر في التدبير والفعل بعيدا عن سلطوية هذا الفريق أو ذاك نفسه في انتظار إتمام رحلة قسرية، رفقة جلاد السلطة الذي مهمته أن ينفذ فيه حكم إسكات الصوت بالإعدام، وليصبح التقاء الاثنين مع حارس المحطة المنسية منعطفا آخر لنشوء تواصل بين حارس بسيط يمثل من خلال شكله و حواره و بساطة مهمته و عمقها في نفس الآن انتظارات الفئات الاجتماعية البسيطة و بين جلاد حكمت عليه ظروف النشأة امتهان أسوء الجرائم من سرقة و قتل قبل أن تختار السلطة الاستفادة من رصيده الإجرامي هذا ، و تجعل منه يتلقف كل صوت حر حالم بمغرب تسود فيه قيم الحرية و الكرامة بداية الاستقلال لينفذ فيه حكم الموت.
و قد كانت مساحات الكلام التي استطاع الشاب المنتظر لحكم الإعدام في محطة القطار المشاركة بها في هذا التواصل المجتمعي ذات معنى و رمزية واضحتين ، ليس فقط للزمن الممسرح الذي ظهرت فيه أثناء العرض و إنما لأن الراحل عبد القادر البدوي ،اختار أن يجعلها توصل باختصار الرسائل لمن يهمه الأمر و لتكون باعثا على جعل الجلاد يدخل في صراع أشبه بالوجودي وهو يحاول التخلص من يقظة الضمير الإنساني التي أصبح هو الآخر سجينا لها وهو في انتظار القطار، محاولا في نفس الآن التعامل مع زوجة حارس المحطة و ابنته اللتين مثلتا نموذجا لبساطة المرأة الشعبية المغربية و محدودية تفاعلها مع قضايا الحياة والوجود و الأمل. قبل أن يعلن ظهور رئيس المحطة عن مثال آخر لموظف مغربي اختارت الإدارة العمومية أن تقذف به لسنوات عديدة في غياهب هذه المحطة المنسية عن لحظة مسرحية أخرى تمازجت فيها الكوميديا بالسخرية و النقمة على بقاء الحال المغربي حينها كما هو عليه. و ليأتي حادث انزياح قطار عن سكته كبِؤرة قوية سمحت بتدفق المعاني و القيم في نهاية هذه المسرحية بعد أن اختار الجلاد الاستسلام لنداء الضمير بإيعاز من إحدى راكبات القطار نفسه و باقي شخوص المحطة و يقوم بفك قيد الشاب المغربي الحالم بالحرية و لتصبح قيود و سلاسل الأسر طوق نجاة الركاب و وسيلة لرفع القطار المغربي المذكور و جعله يمشي على السكة الصحيحة المنشودة،قبل أن يجسد عناق الجلاد و الضحية لحظة تصالح و اعتراف بحق الجميع في وطن تسوده ثقافة الاعتراف و المشاركة المواطنة، ليخاطب المشخصون في النهاية الجمهور موجهين له و عبره رسالة مسرحية قوية مفادها بأن قطار المغرب هو شأن عام يهم الجميع بدون استثناء، وذلك تحت تصفيقات الجميع.
للإشارة فقد شارك في عرض هذه المسرحية كل من علاء الدين الحواص و مصطفى المنتصر و رشيدة السعودي و ليلى المتقي و إبراهيم العماري، و التي كانت فيها الإضاءة و الموسيقى عناصر أساسية ساعدت في القوة الدرامية للعرض.


الكاتب : سمير السباعي

  

بتاريخ : 06/03/2024