استغرق العمل به قرابة ست سنوات .. «قاموس البحر الأبيض المتوسط» عن الإنسان والمجال والتاريخ

اغتنت المكتبة العربية بأفضال أقلام مترجمين مغاربة بعمل ترجمي في غاية الأهمية، يخص ثقافات وفكر ومعارف وفنون حوض البحر الأبيض المتوسط. قاموا بتعريب عمل هو من الثراء بحيث لا يمكن لمقال واحد أن يلم بقضاياه. يتعلق العمل ب»قاموس»معرفي ينهل من مناهج العلوم.
لقد صنعت وسائل الإعلام التلفزي والسينمائي في أذهان المتلقين من البحر الأبيض المتوسط تمثلا فولكلوريا، وهو التمثل الذي نجح هذا القاموس في هدمه معرفيا. نقدم في مقالتنا هذه فكرة هذا العمل على أمل العودة إليه في مناسبة أخرى.
ففي عام 2021 صدرت الترجمة العربية ل «قاموس البحر الأبيض المتوسط» عن» المركز الثقافي للكتاب» بدعم من مؤسسة أنا ليندـ أوروميد، مع تولي مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود –للدراسات الإسلامية والعلوم بالدار البيضاء مهام التمويل لمجموع العمليات الخاصة بالترجمة العربية.
تستقطب ضخامة المشروع، وجديته كل قارئ مهتم بثقافة البحر الأبيض المتوسط، مشتل كل الثقافات، وواحد من بين أرقى ينابيع الحضارات. وهو بالفعل قاموس دعمته المعرفة الأنتربولوجية بقلم ديونودجي ألبيرا، والمعرفة التاريخية بقلم مارياين كريفيللو، وفكر علم السياسة بقلم محمد الطوزي، ومشاركة الناشرة والباحثة في قضايا الذاكرة، جيزيل سيماندي في ما يخص النسخة الفرنسية التي هي من نتاج عشرات الباحثين في مختلف التخصصات، شملت أبحاثها الإنسان في المتوسط، والمجال الذي احتواه والثقافة التي أثرى بها تاريخه.
أشرف على الترجمة العربية الباحث محمد الصغير جنجار، وهو من قدمها للقارئ العربي في حين قام الأستاذ الحسين سحبان بمعظم الأعمال الترجميةـ تعريبا وتصحيحا ومراجعة. وإذا كان القارئ العربي يطمئن كثيرا لأعمال الحسين سحبان كمترجم، بفضل أمانتها ودقتها ومصداقية ووفاء صاحبها لروح الأعمال التي يترجمها مع الحرص على ذات الوفاء لروح اللسان العربي، فقد أكد هذه الخصال النادرة في هذا المشروع المعجمي المعرفي الضخم الذي يبدو من قراءة مواده أنه أخذ منه زمنا طويلا، وجهدا خاصا لا جدال في أنه كان مضنيا علما أن ترجماته يتم إنجازها من اللغتين الفرنسية والإنجليزية. وإذا كنا كقراء نفخر بعلو مستوى ترجمات هذا الباحث والمترجم المغربي، فإنا نعي كل الوعي أهمية تعدد اللغات المترجَم منها إلى اللغة العربية، خاصة وأن المشروع يتصل بالفضاء الذي ننتمي إليه، فضاء البحر الأبيض المتوسط الذي كانت له دائما الريادة في مجمل مكونات ثقافة وقيم الانسانية.
يفيدنا الأستاذ محمد الصغير جنجار، المشرف على الترجمة إلى العربية في تقديمه للمعجم أن أعضاء شبكة رمسيس هم أصحاب فكرة إعداده: «كان منطلقهم الوقوف على محصلة المعرفة كما تراكمت حضاريا، في بعديها الرئيسيين، الجغرافي والتاريخي،هذا الحوض فاكتشفوا خلال مناقشاتهم أنه لا توجد تعريفات دقيقة للفضاء المتوسطي، تعريفات يكون عليها إجماع الباحثين في مختلف المعارف المتصلة بهذا الفضاء. لقد شكل سؤال «عن أي بحر أبيض متوسط نتحدث؟» أساس ذلك المنطلق. هل يقوم على ما يحيطه من قارات أم أنه يمتد إلى الأراضي التي تطوقه فيتم الوقوف على المجتمع والدين والتاريخ والثقافة فيه دون نسيان أساطيره وحكاياته وآدابه وفنونه ورحلاته السردية وألوانه…؟من هنا نبعت فكرة، بل قل مشروع (القاموس) فجاء الجزءان المكونان للنسخة العربية في طبعة متميزة تقدم لنا معارف شتى، متعددة، مختلفة فهي إذاَ غير موحدة مما منحها ثراء خاصا.
لماذا الترجمة؟
سؤال يطرحه الأستاذ جنجار في تقديمه لهذا العمل الترجمي العربي. لقد تراءى العمل لواضعي الصيغة الفرنسية رهانا قويا…فلم يكن غريبا حقا أن تبدو الترجمة إلى العربية مهمة مستحيلة. فقد استغرق العمل قرابة ست سنوات في تعريب قاموس أغلب من حرروه أوروبيون يوحدهم تراث قرنهم التاسع عشر.
ثمة، يقول جنجار،عوامل عدة أهمها «الغياب الصارخ للمجال المتوسطي ضمن مسارات بناء وتمثل الهوية في مجتمعات الضفة الجنوبية. (ثم هناك) خلو الحقل اللساني العربي الحديث من تراث فكري متمحور حول مكانة البحر الأبيض المتوسط في التاريخ والثقافة والمتخيل الجمعي» .هناك أكثر من عامل يتضمنه الجواب على السؤال المطروح. فنوجز بالقول إن القناعة بضرورة إنجاز الترجمة المذكورة إنما تمت انطلاقا من الوعي باللامتكافىء في بناء المعارف بكل أصنافها وعلى كل المستويات كما يتجسد كل هذا في مجمل الفضاء المتوسطي.
والحق أن هذا العمل الكبير والمفيد كمعجم، يشكل نداء فكريا بعيدا عن كل الكليشيهات التي اعتدناها وهو ما يمنحه مرتبة خاصة في مراتب المعرفة القائمة على منجزات العلوم الإنسانية والاجتماعية.


الكاتب : مصطفى خُلال

  

بتاريخ : 18/03/2024