الإيقاع وبناء المعنى في ديوان «طعم الغابة في الحلق» لفتح الله بوعزة

 

تمهيد

حين حَسم «غوته Goethe» قائلا أن «لا وجود لفكرة شعرية فـنية حية دون إيقاع»، فإنه كان يجزم أن الوعي الشعري هو وعي إيقاعي بالضرورة، وهذا لا يُفضي فقط إلى جعل الإيقاع في مقدمة باقي العناصر، ولكنه يتجاوز ذلك ليجعله مهيمنا، أي عنصرا بؤريّا في الأثر الفنّي يتحكّم في تحولات العناصر الأخرى، بل إنه يحقّق تأمين انسجام البنية.
وإذا كان الإيقاع في التراث العربي القديم قد تأطّر داخل ثنائية الساكن والمتحرّك الصوتِيِّيْن، فلأنه قد ظل متصلا بالموسيقى، إذ إنه في الأصل قد وُضع للغناء والحداء والترنم –كما قال الأخفش، ثم «إن الإيقاع في الشعر والموسيقى معا إنما هو التركيب الزمني المخصوص الذي يتكون من الأصوات المتساوية المتجاوبة»، غير أنه ارتبط في الموسيقى بزمن الإيقاع، حتى إن الكِندي قد ابتدع مصطلح (النسبة الزمنية) ، فيما ارتبط الإيقاع في العروض بزمن الحروف، فاشترط ابن سينا النقرات محدِثة للحروف التي ينتظم منها الكلام للحديث عن الإيقاع الشعري؛ وعلى هذا الأساس كانت خلاصات الدارسين في السابق تنتهي إلى أن مفهوم الإيقاع كمفهوم الوزن، وكلاهما ينبني على المادة الصوتية..
وجليّ أن المكوِّن الزمني والمكوِّن الصوتي والمكوِّن المعجمي هي عوامل موضوعية ظلت مهيمِنة في المنجزات الشعرية العربية والغربية لزمن طويل، لكن تنامي الحركات الفكرية والفلسفية التي تحتفي بالفرد باعتباره مِحوَرا، وبقدراته الإنتاجية، قد أيقظ حضورَ الذات في الممارسة الإبداعية، ومن ضمنها الشعر؛ فاصطبغت المكوناتُ الشعرية بألوانِ الذّاتِ وفاعليتِها، وبَصَمَتْ علاقة ُ الذاتِ بباقي المكوّنات أثرَها الذي شكّل منعطفا جديدا استَحدَث ملامح جديدة وذوقا فنيا مغايرا، وأفضَت هذه العلاقةُ في الخطاب بين الإيقاع والمعنى والذّات إلى تحرير الإيقاعِ من الانحصار في العروض فقط؛ فصار الإيقاعُ بالتالي يمثّل إحدى صور حضور الذات وتشكّلها في النص، وذلك باعتباره علامة تنخرط مع باقي العلامات في بناء المعنى، فضلا عن أنه العنصرُ الأكثرُ حميميةً ضمن عناصر الذات. وسيغدو الإيقاعُ بهذا المعنى شاملا للقول الشعري كله، ومحدّدا للقصيدة باعتبارها حدثا شعريا، بحيث تنخرط فيه اللغة والمعنى والصوت والمعجم والشكل وغيرها…، وبالتالي تصير دلالة الإيقاع أوسع وأشمل مقابل باقي الدلالات، ومن ضمنها دلالة المرجع.
وسنسعى في هذه الدراسة إلى تتبّع إيقاعات النصوص من خلال ثلاث مكوّنات (الترادف والمماثلة والتقابل)، التي يستند إليها الشاعر (فتح الله بوعزة) لبناء الدلالة وإنتاج المعنى في ديوان (طعم الغابة في الحلق) .
إيقاع الترادف:

يذهب علماء الدلالة إلى أن اللفظ من حيث دلالته على المعنى لا يخرج عن ثلاثة احتمالات، فإما أن يدل اللفظ الواحد على المعنى الواحد، وهذا هو الأصل؛ أو أن يدل اللفظ الواحد على أكثر من معنى، وهذا هو المشترَك اللفظي؛ أو أن يدل لفظان على معنى واحد، وهذا هو الترادف، وقد أثير حوله نقاش كبير منذ القديم.
ولأننا ننطلق من اقتراح بنيويّ مفاده أن النص الشعري يخلق عالمه الخاص، بحيث أنه لا يغدو مَظهرا من مظاهر اللغة، وإنما يغدو لغةً خاصة ترتّب نظامها الداخلي ورموزها الخاصة، فإننا ننظر إلى اللفظ داخل النص الشعري باعتباره يكتسب دلالات إضافية من خلال علاقاته بعناصر أخرى، وليس فقط من خلال مرجعيته المعجمية. ولهذا فإن التماثل هنا يتّخذ صورتين: الاشتراك اللفظي والاشتراك الوزني. يحيل الأول على تعدد المعنى من خلال ما ترسّب تاريخيا على اللفظ من دلالات، كما يتضمّن أيضا الخلق الجديد للدلالة بسبب النشاط الحيوي الذي يبثّه الشاعر في الألفاظ داخل ممارسته الإيقاعية، بينما يحيل الاشتراك الوزني إلى خلق الترادف من خلال الإيقاع، ذلك أن التماثل على مستوى الوزن يفضي إلى (تمكين لفظتين متباعدتين لغويا من أن يُنظر إليهما كمتعادلتين).
ولعل مقاطع نص (اشتهاء) تقدّم نماذج بارزة للتماثل في شقّيه. يقول الشاعر:
(جثّة تدفع جُثّةً
تتشابك أيديهما في عناق طويل
بالكاد يكتمل السّهوُ
بالكاد تتّصل الخُطوَةُ بالخُطوةِ
والرقصةُ بالرّقصَةِ
في غبش الفجر) [ص81]
فالجثتان تشتركان لفظا، لكن عالَم النص يخلق لكل منهما إيقاعا مغايرا يؤشر عليه إسناد الفعل، إيقاع الحركة وإيقاع السكون، وهو ما يمنح توليد دلالتين من اللفظ نفسه؛ ذلك أن الانطباع الذي تخلقه البنية النحوية للجملة من افتراق الجثتين واختلاف مستويَيهما (جثة فاعلة متحرّكة حيّة، وجثة مفعول بها ثابتة هامدة)، سرعان ما يتم تكسيره عند اشتراكهما معا في فعل (تشابك الأيدي)، فنكون بالتالي أمام دلالات متفقة بين الجثتين، هي نفسها الدلالة المعجمية المعروفة، يعضّدها النص في التقاء الجثتين داخل جملة إسمية دالة على الثبات والجمود والصمت، لكن النص يمنحها إضافة وتوسيعا من خلال الحركة التي يفاجئنا بها السطر الثاني، لتغدو الجثتان متحرّكتان تماما مثل الخطو.
وإذ يختار الشاعر لفظتي (خطوة) و(رقصة) من نفس الوزن العروضي، مع منحهما التركيب نفسه (الخطوة بالخطوة/ والرقصة بالرقصة)، فإنه يخلق لهما عالما دلاليا مشتركا، لا تكون فيه الخطوة جزءًا من الرقصة فقط، ولكنها تصير مطابقة لها أيضا. ويتكرّر هذا النظر إلى المُتباعدين – باعتبارهما متقاربين- أيضا في العبارتين: (يكتمل السّهوُ) و (في غبش الفجر)، إنهما على المستوى اللغوي العادي تحيلان على وضعيتين مختلفتين، تتصل الأولى بوصف نفسي مجرّد، فيما تتصل الثانية بوصف صورة معيّنة مرئية، غير أن وضعهما معا داخل النص يجعلهما تلتقيان..
فاكتمال السهو جاء بعد فعل تشابك الجثتين، فيما جاء غبش الفجر بعد فعل اتصال الخطوتين واتصال الرقصتين، فضلا عن أن العبارتين معا مرتّبتان بتوزيع السواكن والحركات على الوزن نفسه (/0///0/0/0)، وكأنما «غبش الفجر» هو نفسه «اكتمال السهو» أو مماثل له أو يطابقه داخل العالم الدلالي الخاص الذي يخلقه النص لنفسه بعلاقاته الداخلية وبتنسيقه الإيقاعي الذاتي الذي لا يكتفي بالوزن، بل يمتد ليشمل التماثل والترادف الموسّعين من جهة، والتماثل الإيقاعي والتركيبي من جهة ثانية؛ ويتحوّل الصوت والتركيب والمعجم والوزن إلى علامات تمتلك وجوهاً دلالية تنتهي عند محطة واحدة يسمّيها (ريفاتير) «الانصباب» أو «الانثيال السياقي».

إيقاع التماثل:

ينطوي ديوان «طعم الغابة في الحلق»على بناء تماثلي، تتخذ فيه الأشياء والحالات مواضعها في عالمين متناظرين، وإذ يبدوان منفصلين سطحيا، فإنهما في العمق يغدوان متماثلين كما لو أن الفعل الشعري هو فعل يؤسس انعكاس الصور والتشابهات.ويعلن الديوان عن هذا الاشتغال منذ عتبة الإهداء (إلى شبيهي)، وهو إهداء تمت صياغته شعريا بنص ينتهي بالعبارة/ الإشارة: (انتظرني) [ص 6].
الانتظار ليس غير قياس المسافة بين الذات والآخر، إنه تهيؤ، واحتمال قادم مفترض، قد يكون هذا الاحتمال يقينيا ومحدّدا كما في مفهوم (الانتظار) عند الشيعة، وقد يكون مفتوحا متعددا وغير يقيني كما عند ياوس وإيزر.. لكنه في كل الحالات يتصل بالرؤية ، إذ النظر والانتظار يغدوان حامليْن للمعنى نفسه، و»إنما تقول [العرب] نظرتُ فلانا أي انتظرته»وبهذا فإن العبارة نفسها في النص الأول الذي يفتتح به الديوان قصائده، هو دعوة للنظر إلى الشاعر، ومن ثمة إلى الفعل الشعري وأثره في العالم:
(انتظريني
دمعتان فقط
وينطفئ الحريق) [ص7].
وهذه الصلة بين انتظار المتكلّم وبين انطفاء الحريق، هي لبّ ومدار العالَمين المتناظرين في الديوان أجمع. فالمتكلّم يحيل على حقل الشِّعر، والحريق على الغابة وشجرها، وبينهما قرابة يستضمرها التقارب الصوتي بين اللفظين (شعر) و(شجر)، وهو تقارب غير مجاني يبادل حرفيْ العين والجيم، ويفضي إلى تقارب في المعنى والدلالة كما أشارت إلى ذلك «أوريكسيوني»، وهو ما تنبّه إليه ابن جني قبل ذلك في باب «تعاقب الألفاظ لتعاقب المعاني»، فالشجر والشعر يتفقان في الكثافة وفي الإخفاء، وفي الامتداد والهيَمان…، كما يتفقان بالكاد في الرسم، فيشغّلان الأذن والعين معا، ويخلقان تماثلا آخر هو (جناس الخط)
وفي نص (صيد الياسمين)، يعلن الشاعر أنْ:
(ليس لي شجر أستعين به
شجر مطمئن إلى شبهة المعنى) [ص138]
وللقارئ أن يبادل لفظ الشعر بالشجر، فلا يكاد يتغير في معنى وفي تذوّق المقطع شيء، فالحرفان معا (الجيم والعين) يكادان يتفقان تماما في الجهر والقوة والانفتاح والانخفاض، وبالتالي يخلّفان صدى متشابها، ويؤكد هذا التماثل تكرّرُ نفس المعنى تقريبا في نص (حديقة البيت):
(الشجرة الوحيدة التي
تراني دوما
قصيدة حافية القدمين) [ص21].
ويستمر هذا الاختيار لتماثل عالميْ الشجر والشعر، حتى أن الشاعر يقترب أكثر من الشجر، فيحمل غابة ويوغل في المجاز:
(هم رأوا غابة خضراء على رأسي
ها هنا شاعر موغل في ضباب الصباح) [ص26]
ثم لا يلبث أن يتماهى مع الشجرة، وهو يتتبّع أثر الشعر في خلق الاتزان والثبات والراحة للعالم المحيط:
(ولأن قامتي صفصافة
وكتفيّ سحابة
فقد أنعشهم ظلّي) [ص27]
ولعلّ عنوان الديوان الموغل في الاستعارة حدّ الغموض يغدو شفيفا عند نقطة التماثل هذه، حيث فائض الشعرية وفائض الانزياح تقابلهما كثافة شجرية مثل الغابة، قد تخلق مسافة ما بحكم الحد الذي ترسمه الجذوع والأغصان بين عالميْ الخارج والداخل، وهذا الحدّ يعيدنا إلى استحضار مسافة الانتظار التي انطلق منها الشاعر في الإهداء، حيث اللقاء والانكشاف مؤجلان، فيصير النظر إلى الكثافة الشجرية انتظارا يرجئ تفكيكها، ويصير لتذوّقها طعمٌ استثنائي يستحق الاحتفاء به عنوانا على الغلاف بلفظ (الغابة).

إيقاع التقابل:

يشكّل إيقاع المشابهة عبر التماثل والترادف محورا أساسيا تتحرك في دائرته نصوص «طعم الغابة في الحلق». ومن الطبيعي أن الحركة الثابتة لأي إيقاع في مساحة زمنة ممتدة تغدو رتابة وآلية مملة يتعذّر على الانسان تحمّلها لوقت طويل، لهذا فإن عنصر التكسير والمفاجأة يمثّل مبدأً أساسيا للتحرّر من قيود الرتابة، وعبره يخلق الإيقاع دائرة القلق والتشويش التي تفضي إلى تكسير التوقع وتجديد العلاقة بالنص ودلالاته ومن ثمة تشغيل فعل القراءة باستمرار. فيغدو الإيقاع بالتالي مرتبطا بنيّة الشاعر والقارئ على السواء.
وقد تنبّه (أ.ك. فاركا) إلى أن الإيقاع يتأسس على التحرّر من قيود الأوزان وآليتها،  ولهذا فقد اشترط تدخّل عنصر ثالث مشوّش، يتجاوز ما سيُعتبر عادةً أو تكرارا نمطيا، وعدّ التشويش نتاج عنصر المفاجأة أوالصدمة.
ولعلّ مباغثة نصوص «طعم الغابة في الحلق» للقارئ بعد تثبيت إيقاع المشابهة بقطبيه (التماثل والترادف)، قد تحقق بواسطة عنصر ثالث مغاير تماما ومفاجئ، وربما مفارِق أيضا هو عنصر (التقابل). ففي الوقت الذي تكون فيه كثير من المقاطع الشعرية تشتغل وفق تكرار الصورة الصوتية أو الخطية أو الدلالية بشكل تناظري أو بشكل تماثلي، فإنها في الآن نفسه تقدّم عوالمها باعتباره حاملة للصفة ولضدّها، بحيث أنها تقابل نفسها بشكل يكثّف القلق وإشاعة التشويش والغرابة.
إن الديوان يحتفل بالحضور البيئي بشكل كبير، فيجعل الحقل الشعري حقلا إيكولوجيا يستمد طاقته من الجمال ومن الكثافة وأيضا من الغرابة. ولعل تواتر لفظ (الوردة) يمثّل نموذجا من هذا الحقل يتمّ تشغيله لتشويش إيقاع المماثلة، ومن ثمة لإثارة أسئلة التناغم في العالم وبين الناس، وأسئلة جدوى الشعر والتحقق الجمالي. فالوردة بتاريخها ورمزيتها وانتمائها لقيم المحبة والجمال والحياة، يتم تقديمها حاملة للنقيض، مخادعة، غير مرادفة لذاتها وغير مماثلة لها، بل إنها تشيع النحافة والضمور والمرض والاختناق، وبالتالي يمعن الشاعر في تكسير إيقاع المماثلة عبر مفارقة الذات نفسها، فيقول:
(مهلا أيتها الوردة
ساقاك نحيلتان
والهواء شبه منعدم) [ص7]
ويتكرر الانطباع ذاته في أكثر من موضع، فيتمكّن الديوان من بناء إيقاعاته في كلية نصوصه، وفي انخراط مع خطابات النصوص فيغدو «شكلا دالا» إلى جانب باقي الدوال:
(لسان الوردة يرجف
وجلد الأرض أوهن
من رئتي مشّاء حزين) [ص18]
وكما أن الوردة ترتبط بالوهن والحزن والسقم، فإنها تحضر موقّعة على الارتباك والتيه واللاثبات، حتى أن الشاعر يعلنها في المقطع التالي مُراوِحة بين اليقين وبين الظنون، ومنطَوية في الآن نفسه على قطبيْ التقابل، حاملةً للصّفة ولضدّها معا:
(الوردة الحمراء هناك
ضفيرة امرأة دلّت اليقين على بابي
واختبأت خلف ظنون العاشق) [ص21]

خاتمة:

ينخرط ديوان «طعم الغابة في الحلق» في سؤالين: سؤال مآل العالم في اضطرابه وانهيار قيمه، وسؤال الأثر الجمالي والفعل الشعري فيه؛ ويختار الاشتغال على العنصر الإيكولوجي باعتباره يشمل قطبيْ الجمال والانهار معا، ثم يبني خطابه عبر الترميز باعتبار الشعر غابة، والشاعر شجرة، والصوت الإبداعي وردة تنطوي على الثبات وعلى التيه في آن.
غير أن المبدع «فتح الله بوعزة» يمعن في بناء الديوان على سلّم إيقاعي دال ينبني على المشابهة التي يعمّقها الرمز والترادف، فيغدو الإيقاع بمكوناته المعجمية والصوتية والوزنية «توليدا للمعاني في مناطق لا تصل إليها اللغة».


الكاتب : حسام الدين نوالي

  

بتاريخ : 08/01/2021

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *