الترجمة فعْل تحرّر وبناءٌ للمعرفة

لقد أصبحت الترجمة أداة عبور للمجتمعات في اتجاه العالم الخارجي/ الآخر بتبدّلاته الثقافية والمعرفية والاجتماعية، ذلك الآخر الذي شهِد ويشهد بين الفينة والأخرى، تحولاتٍ متسارعة تعكس تفاوت القيّم الانسانية، وبواعثها الحضارية والقومية واللغوية المختلفة. إنّه الحال الذي عبّر عنه عزّ وجلّ في مُحكم كتابه» ومن آياته خلقُ السّماوات والأرضِ واختلافُ ألسنتكم وألوانكم، إنّ في ذلك لآيات لـلـعالمين»/ الآية 22 ــ س. الرّوم.
من هذا المنطلق تصبح الترجمة عامل غنى للتقارب الإنساني الذي يتيح إقرار مجتمع عالمي تتواصل فيه الأفكار والقيم والمعتقدات والهويات المختلفة. إنها بديل حضاري يُسهم في الربط بين جهات العالم الأربع، وفي ذات الوقت، لا يلغي حق الشعوب في التعبير عن أحوالها، بعيداً عن الإقرار بوحدة لغوية تلغي الألسن الأخرى، لتتبنّى لساناً واحداً، بل يسعى هذا البديل/ الترجمة إلى تقارب الألسن وخلق مناطق تماسٍ بينها، وهو ما تحتاجه اللغة في بُعدها العام والكلي لتنمو وتتطور.
ولأنّ تعدّد الألسن سمة الخلق، كان لابدّ أن تظهر صيّغ تواصلية تؤلف بين ما اختلف بين الناس وتنافر. من هذه الصيّغ: الترجمة. إنّها صلة الوصل التي مدّت جسور التواصل والتعارف بين الأمم والكيانات الثقافية المختلفة لتُحقق قوله تعالى» يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم».
إن الترجمة هي تجاوز لمنطق الاحتكار اللغوي لكونها تسعى لأن يكون اللسان متعدد القوميات، مادامت الترجمة تتعايش، ومنذ القديم، مع الوجود الإنساني بكل أبعاده الاجتماعية والثقافية والتاريخية، إمّا انحصاراً تارة، أو تمدداً أخرى.
إنّ وضع الترجمة بشكل عام، لم يخضع لمنطق الترحاب وحده عبر تاريخها الطويل، بل اعترتها هزات مشكّكة في نشاطاتها، قلّلت من وضعها الاعتباري عند بعض الشّعوب. فخلال العصور الوسطى منعت الكنيسة ترجمة الكتاب المقدس لأن بعض اللغات القومية لم تكن في نظر المانعين، لتتسع آنذاك، لحمولات اللغة اللاتينية ومعانيها. غير أن التاريخ الحديث أنصف الترجمة والمشتغلين بها، وأقرّ بأن اللغات كلها، أوعية حمّالة لمعانٍ تتساوى قوتُها الدلالية إلى حدّ كبير. لقد أوْلتها الحداثة وقـيّمها المدنيّة مكانة متميزة تتجاوز أحياناً، ما تُقابَل به بعض العلوم والمعارف رغم عراقتها.
إن الترجمة تنمو وتزدهر في عصور الانفتاح. فهي قابلة لأن تستوعب كل مجالات الحياة دون أن تميّز بين مجال وآخر. وبانفتاح المجتمعات تتمدّد آفاق الترجمة وتتنوع مشارب علومها، حتى لَـتُصبح بذلك، قاطرة للمعرفة ومدخلا رئيساً لكل المعارف. وحين تضيق مساحات التعبير، وتهيمن سلطة الرأي الواحد تتراجع الترجمة ويقل منسوبُها ما أنْ تتآكل مساحات الحرية. إنّ الترجمة إجمالا فعْل تحرّر وثورة على كل أشكال التنميط المعرفي واللغوي، وفعل بناء تتكامل فيه المعارف، انسجاماً مع تُقدّمه الترجمةُ للمعارف والثقافات الإنسانية من قيم تواصلية تُعلي من شأن المشترك الإنساني الغني بثراء لغته، وتصوراته، ومنطلقاته التراثية التي أكسبت المعرفة الانسانية وآدابها خصوصية طبعت نصوص الإبداع الكوني بثراء مرجعياتها التي تنهل من خلفيات وعلوم مختلفة كدرس البلاغة والنحو وعلوم اللغة الحديثة بما فيها اللسانيات، والتداوليات، والتلقي…
إن الترجمة، وهي توظف هذه العلوم جميعها، دون أن تعلن صراحة ذلك، تؤسس لتكامل المعارف لأجل بناء معرفة مشتركة لا تلغي الآخر، بالقدر الذي تقرّب فيه المسافات بين العوالم المختلفة، لذا فالبحث في الترجمة، هو بحث في علوم متعددة في الآن نفسه، تكوّن الأرضية القاعدية لانضباط الفعل الترجمي، وتماسك مكوناته.
إنّ الترجمة بناء يقوم أساسَه على توظيف عدد لا يستهان به، من الأدوات والمعارف التي تمكن المترجم من إمكانية التعامل مع كل الخطابات، وفي جميع الوضعيات الممكنة. إنها/ الترجمة لا تقتصر في مقارباتها للنصوص الأدبية أو غيرها، على اللغة الواحدة، ولا على الرؤية الواحدة، ولا على اليقين الواحد، بل يتعدى الأمر إلى خوض مغامرات قرائية لهذه النصوص لاستجلاء مكامنها.


الكاتب : صلاح انياكي أيوب

  

بتاريخ : 22/06/2021