التفكير في الإسلام والتنوير

 

تثير ثنائيات من قَبِيل الإسلام والتنوير، الإسلام والديمقراطية، الإسلام والعلم أسئلة عديدة، إنها تستعاد في الثقافة العربية، بصورة تكرارية وبدون إضافات تسمح بمراكمة وبناء ما يدفع إلى تجاوُزها، وتجاوُز الأحكام والمواقف التي تواصل تعميمها، الأمر الذي أصبح يتطلب في نظرنا بلورة صيغ واضحة ودقيقة في ضبطها، صِيَّغٍ تستبعد ما يُقْرَنُ بها من معانٍ ودلالات، تحوِّل الإسلام في الأغلب الأعم، إلى إطار للتميُّز والخصوصية والاستثناء، وكأن لا علاقة تجمعه بالدين على وجه العموم، وديانات الكتاب على وجه الخصوص.
نعتقد أن الذين يتحدثون عن الثنائيات التي ذكرنا، لا يعيرون أدنى اهتمام للطابع المركَّب لمفردة الإسلام، وذلك رغم معرفة البعض منهم أن الإسلام مُعتقدٌ وتاريخ وثقافة، وأنه امتلك في التاريخ مواصفات الحَدَث الصانع لتاريخ متواصل، تاريخ حمل وما فتئ يحمل قراءات متعدِّدة ومتناقضة. وبجانب ذلك، يمكن أن نشير أيضاً، إلى أن دلالات التنوير بُنيت في الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر بصورة مُركَّبة، وأنها صنعت أيضاً خيارات في الفكر وفي الحياة متطوِّرة ومتناقضة، عكس ما يعتقد بعض الذين عملوا على تحويل فكر الأنوار في سياقات تاريخية محدَّدة، إلى دوغما مطلقة ومغلقة..
صحيح أن أوروبا الحديثة أنتجت فكر النهضة والإصلاح الديني، وأنها تَوَّجت إنتاجها المذكور بالكشوفات العلمية الكبرى، كما بنت في ضوء كل ما سبق وفي ارتباط مع التطور العام لمجتمعاتها، عقلانية الأنوار النقدية، وأن هذه الأخيرة اكتسحت العالم، ولم تعد أنواراً لأوروبا وحدها، بل تطورت واتسعت، وأن تطورها ركّب في قلبها مسارات مختلفة عن روح المبادئ والتطلعات، التي ساهمت في صناعة كثير من أَوْجُهِها. وصحيح أيضاً، أن الإسلام عقيدة تغطي اليوم فضاءات كبيرة خارج جغرافية المنطلق والبداية، وأن ثقافته صنعت أكثر من تأويل له ولتاريخه..
وإذا كان فكر الأنوار قد انتقل إلى فضاءات تاريخية أخرى، شملت بأنوارها منذ نهاية القرن الثامن عشر فضاء الثقافة العربية، ولم يعد بإمكاننا بعد مرور ما يقرب من مئتي سنة، على انخراط ثقافتنا في عملية تمثُّل مقدمات وأصول الثقافة الغربية الحديثة والمعاصرة، ومساهمة أجيال من النهضويين والموسوعيين والكتَّاب العرب في تطوير الرصيد الثقافي العربي، أن نتنكر لمكاسب ومنجزات هذه الثقافة، وللأدوار التي قامت بها في مجال تطوير فكرنا المعاصر.
لم يعد بإمكاننا أن نواصل النظر إلى منتوج هذه الثقافة وفي قلبه فكر التنوير، باعتباره خارجاً نشأ وتطوَّر بمحاذاة ثقافتنا، بل إنه يعتبر اليوم رافداً هاماً من روافد ذاتنا التاريخية المتحوِّلة، وهو خلاصة لأشكال من المثاقفة حصلت بيننا وبين الآخرين، ويتواصل اليوم حصولها بصوَّر وأشكال عديدة في حاضرنا، مثله في ذلك، مثل روافد أخرى شملت ثقافتنا أيضاً، بمآثر ومكاسب ساهمت في إغناء وتطوير أنماط وعينا بالعالم وبذواتنا في التاريخ. نقول هذا بلغة ومنطق التاريخ، وذلك رغم كل مظاهر العنف الرمزي والمادي، التي واكبت عمليات انتقال المنتوج المذكور إلى ثقافتنا، سواء في الماضي أو في الحاضر، مع فارق هام يتعلق بكون صوَّر مثاقفتنا في الماضي كانت مرتبطة بقوتنا وفتوحاتنا، وأن صوَّرها في الماضي القريب، اقترنت بلحظات تأخرنا التاريخي. ونتأكد من أهمية هذه المسألة، عندما نُعايِن اليوم، أنماط اللغة والوعي الجديدين في ثقافتنا المعاصرة.
نفترض أن تسليمنا بالمبادئ التي بسطنا في الفقرات السابقة، يتيح لنا أن نفكر في الثنائيات التي انطلقنا منها بطريقة مغايرة، وهو يسمح لنا مثلاً بمواجهة الإسلام والتنوير خارج دائرة المتداول، إنه يمكِّننا من النظر في سياقات التنوير وصوَّر تطوُّره هنا وهناك، خارج الحدود الفاصلة بين الثقافات والمجتمعات والطموحات البشرية، وما يمكن أن يترتَّب عنها من نتائج وخلاصات، التفكير في مآلات التنوير في سياق تطوُّر الفكر الأوروبي، ثم التفكير في أشكال تلقي قِيَّمِهِ في ثقافتنا، بحثاً عن أفق يروم إعادة بناء قيم الإسلام وقيم التنوير في عالم متغير.
نتصوَّر أن قيم عصر الأنوار تتعرَّض اليوم لامتحانات عميقة في سياق تاريخها المحلي والكوني، وذلك بحكم الطابع العام لمبادئها، وبحكم تشابه تجارب البشر في التاريخ، وتشابه عوالمهم الروحية والمادية في كثير من مظاهرها وتجلياتها. ولهذا نُلح على كونية مطلب الأنوار اليوم، ليس أنوار القرن الثامن عشر، بل الأنوار كما تطورت في التاريخ، مع ضرورة التمييز بين طابع المطلب في حاضرنا وثقافتنا العربية، وطبيعته في حاضر المجتمعات الأخرى، التي رسَّخت جوانب عديدة من قيمه خلال القرنين الماضيين.
لا نستكين في نظرتنا لعصر الأنوار ومكاسبه، إلى تصورات ورؤى فكرية مُغلَقة، قدر ما نسلم بجملة من المبادئ النظرية التاريخية العامة، التي نعدها بمثابة الروح المؤسسة والناظمة لخياراته الفلسفية، الهادفة إلى تطوير النظر في قضايا الإنسان والمجتمع والطبيعة والتاريخ..
نقرأ الإسهام النظري لعصر الأنوار في الفلسفة والسياسة والأخلاق، في سياق تطور الفلسفة الحديثة، حيث حصل استيعاب لمكاسب ثورات المعرفة والسياسة، كما تحققت وتتحقق في التاريخ الحديث والمعاصر، وفي أوروبا بالذات موطن التشكل الأول للمشروع الأنواري، ثم في باقي مناطق وقارات العالم الأخرى بحكم شروط التحول العالمية، التي واكبت عملية نشر وتعميم قِيَّمِه في مختلف ثقافات العالم.
نفكر في موضوع التنوير ليس باعتباره لحظة في التاريخ (عصر الأنوار)، رغم أنه نشأ كذلك.. إن مقاربتنا له تستند إلى روحه، أي إلى التنوير باعتباره فعالية نظرية نقدية ما تفتأ تتأسس باستمرار، إنه موقف من الراهن وهو طريقة في التفكير، ونتصوَّر أنه يستمد راهنيته الكونية اليوم من الخاصية النقدية الملازمة له. وقد اتخذت حركة التنوير، منذ بداية تشكلها على أيدي الموسوعيين من الكتَّاب والفلاسفة في فرنسا، شكل الفعالية الاجتماعية الهادفة إلى مواجهة مجموعة من القيم والخيارات الدينية والسياسية. وعكست في نصوص كتابها ما يعبر عن أنماط من المجابهة، بين الوعي الجديد وبين التقاليد الدينية السائدة.
انخرط التنويريون في مشروع فكري يتوخى أولاً وقبل كل شيء، إنجاز نقد شامل للدين وللمجال الديني، وذلك باعتماد سلطة العقل كما تبلورت وتطورت في الفلسفة الحديثة. وأصبح الدارسون لا يترددون في مرادفة التنوير بالنقد والنقد بالتنوير، بحكم أن أغلب فلاسفة الأنوار انصب اهتمامهم الفكري، على مخاصمة مختلف التقاليد، التي بناها اللاّهوت المسيحي في مختلف مجالات الحياة في العصور الوسطى.
عندما نتخلَّى عن المواقف الحدية، عند تفكيرنا في ثنائية الإسلام والتنوير، ونكف عن اعتبار قيم الإسلام بمثابة طريق يُفضي إلى التنوير، أو استبعاد البعد التنويري تماماً من أفقه، نقف على جملة من المعطيات المركَّبة، سواء في أدبيات التنوير أو في كيفيات تمثُّله في فكرنا المعاصر. يتجلى ذلك، في كون كتابات الموسوعيين من الفلاسفة، حملت في الكثير من نصوصها بعض أوجُه تناقضات التاريخ وصراعاته. وقد حاول الفكر العربي طيلة القرنين الماضيين، إنجاز عمليات في تمثُّل وترجمة ثم توطين قيم التنوير، عن طريق امتحانها في علاقاتها مع القيم الموروثة، فأنتج بدوره معطيات تأرجحت بين التبشير والتأويل، ثم بدايات التركيب المبدع.. ولم يكن الأمر سهلاً، وزاده تعقيداً ارتباطه بشروط التاريخ الجديدة المرتبطة بالهيمنة والاستعمار، والمرتبطة في الآن نفسه، بالإعلاء من قيم العقل وجدارة الإنسان بالوجود.
نتصوَّر أن التنوير في الفكر والسياسة، كما رُكِّبًت أسئلته ومفاهيمه ونصوصه الكبرى، في الغرب الأوروبي خلال القرون الأربعة الماضية، وإن أفضى إلى جملة من النتائج المتناقضة، إلا أنه ساهم في خلخلة كثير من اليقينيات. لقد ظل في روحه العامة مجرد أفق في النظر، مستوعب لجوانب من تحولات الفكر والسياسة كما حصلت في التاريخ. إنه ليس عقيدة، رغم أن فلسفات التنوير بلورت جهوداً في النظر إلى الطبيعة والإنسان والدين، مختلفة في كثير من أوجُهها عن تلك التي رسخت أنماطها أشكال الفكر السكولائي، التي سادت فلسفات العصور الوسطى، سواء في أوروبا أم في باقي أنحاء العالم.


الكاتب : كمال عبد اللطيف

  

بتاريخ : 18/09/2020

أخبار مرتبطة

  قد تحمل الحرب الإسرائيلية الجارية علnى قطاع غزة  المفكر المغربي المعروف عبدالله العروي على التفكير في كتابة الجزء الخامس

تعني الكتابة في ما تعنيه، أن تتواجد في مكان آخر بينما أنت قابعٌ في مكان مّحدد المعالم، أي أن تكون

يرتقب أن تستقبل مؤسسة»أرشيف المغرب» معرضا خاصا بمسار عبد الواحد الراضي، القيادي الراحل في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وقبله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *