الحبيب المالكي: ديموقراطية التَّوافُق 01 : سنوات رئاسة مجلس النواب في المغرب

العمل في تسيير المؤسسة التشريعية لا يشبه بأَيِّ حال تدبير وزارة من الوزارات

بالحرصِ نَفْسِه على هذا التقليد الشخصي، أحاول أن أقف الموقفَ نَفْسَه تُجاهَ مَهَامّي على رَأْسِ مجلس النواب في المملكة المغربية خلال الولاية التَّشْريعية العاشرة (2021-2016).
وهذه المرة، حاولتُ أَنْ أُشْرِكَ معي عددًا من أطر المجلس في تجميع المعطيات وفتح ما يشبه ورشةً من الحوار الجماعي حول عملنا وأدائنا ونوعية النتائج التي حققناها. وقد وجدتُ من الأصدقاء والزملاء في مجلس النواب روحًا سمحة من الإنصات والتفاعل، إِذْ أدرك الجميع معنى هذا التقليد، وبالخصوص أدركوا أَن ذلك من أجل الإِسهام في لَمْلَمَةِ عناصر ذاكرةٍ مشتركة وترصيد التجربة التي كانت جماعيةً بامتياز من أجل المزيد من فهم واقعنا السياسي في المغرب وتأمل سيرورة نضالنا الديموقراطي في أحد أهم أمكنة الممارسة الديموقراطية.

 

 

دَأَبْتُ في الغالب الأَعَم، كلما أنهيتُ بعضَ مَهَامِّي ومسؤولياتي العمومية، أَن أَقف عند طبيعة هذه المهام، منطلقاتِها ومحدداتِها ومرجعياتِها، وأن أَتأمل مع نفسي ومع شركائي الذين اقتسموا معي مسار التجربة، نتائجَها ومُنْجزَها وحُدُودَها منطلقًا من طبيعة الأَداء محاولًا استخلاص بعض الخلاصات من أجل المستقبل، وذلك لإِيماني الراسخ العميق بأهمية التراكم في حياتنا الوطنية.
كنتُ أقوم بذلك بنفسي عندما كانت الظروف سانحةً كما كنت أُنْجِزُهُ مع شركاء آخرين من خلال كتَابٍ حواري أو تكليفِ صديقٍ أظل قريبًا منه متتبعًا، داعمًا بالأفكار والمقترحات والمعطيات ومؤمنًا بأن ذلك العمل يندرج ضمن واجب فكري وثقافي، وأبعد ما يكون عن الادِّعاء أو الدعاية، خصوصًا بعد أن تكون سنوات هذه المَهَمَّة أو تلك قد انتهت.
والآن، بالحرصِ نَفْسِه على هذا التقليد الشخصي، أحاول أن أقف الموقفَ نَفْسَه تُجاهَ مَهَامّي على رَأْسِ مجلس النواب في المملكة المغربية خلال الولاية التَّشْريعية العاشرة (2016-2021).
وهذه المرة، حاولتُ أَنْ أُشْرِكَ معي عددًا من أطر المجلس في تجميع المعطيات وفتح ما يشبه ورشةً من الحوار الجماعي حول عملنا وأدائنا ونوعية النتائج التي حققناها. وقد وجدتُ من الأصدقاء والزملاء في مجلس النواب روحًا سمحة من الإنصات والتفاعل، إِذْ أدرك الجميع معنى هذا التقليد، وبالخصوص أدركوا أَن ذلك من أجل الإِسهام في لَمْلَمَةِ عناصر ذاكرةٍ مشتركة وترصيد التجربة التي كانت جماعيةً بامتياز من أجل المزيد من فهم واقعنا السياسي في المغرب وتأمل سيرورة نضالنا الديموقراطي في أحد أهم أمكنة الممارسة الديموقراطية.
وما جَعَلني أُلِحُّ أكثر على هذا الإِشراك أَن العمل في تسيير المؤسسة التشريعية لا يشبه بأَيِّ حال تدبيرَ وزارةٍ من الوزارات، فالبرلمان ليس وزارة قائمة على نظام تراتبي ينتهي صعودًا إِلى شخص الوزير الذي يقرر في النهاية ما ينبغي تقريره، وإِنما هو جمعية (Assemblée) يكون القرار فيها جماعيًا، ويتشكل فيها موقع السلطة من عدة أفراد متساوين ولا فَرْق بينهم من حيث الشرعية والتمثيلية والقيمة، وذلك بغَضّ النظر عن الدرجة التي تؤول إلى الرئيس مباشرةً بعد انتخابه وتَبَوُّئِه موقع الرئاسة.
وبالتالي فالرئيس في هذه الهيأة التي تُشَكَّلُ قيادتُها من أعضاء متساوين ليس رئيس حكومة إلى جانب وزرائه ولا وزيرًا يقرر أمام قَبُول مرؤوسيه. فكيفما كانت كفاءة الرئيس وتجربته وحنكته وأبهة موقعه، يظل برلمانيًّا من بين باقي البرلمانيين والبرلمانيات، زملائه وزميلاته أعضاء المجلس الذي يرأسه بل إن أَصْلَ وأَساسَ سلطته الرئاسية يستمدُّهُما من هذا الجمع الذي انْتَخَبَه بالأغلبية طبقًا لأحكام الدستور (الفصل 62 من دستور المملكة المغربية – 2011) ومقتضيات النظام الداخلي لمجلس النواب (المادة 24) الذي يَنُصُّ على انتخاب الرئيس في مُسْتَهَلِّ كل فترة نيابية في جلسة عمومية مخصصة لذلك.
ومعلوم أن رئيس مجلس النواب، مباشرةً بعد انتخابه وتَلَقِّيه تهاني زميلاته وزملائه النواب، يَدْعُوهُ رئيسُ الجلسة المؤقتة (وهو الأكبر سِنًّا من بين النائبات والنواب المُنْتَخَبِين
Le président d’âge) إلى المنصة ليُلْقِيَ كلمةً مقتضبَةً يشكر فيها جميع النائبات والنواب، مَنْ صَوَّتُوا لفائدته ومن اعترضوا أو امتنعوا على السواء وفق التقاليد المتَّبَعة والممارسات الديموقراطية، مُثَمِّنًا الخيار الديموقراطي، مُنَوِّهًا بجميع مكونات المجلس، معبِّرًا عن استعداده للتعاون مع الجميع، والعمل مع الجميع سواء من صف الموالاة أو من المعارضة، وبغَضّ النظر عن المرجعيات أو المواقع السياسية لكل فريق نيابي أو مجموعة نيابية. وإلى جانب ذلك، بادرتُ شخصيًّا في كلمتي الأولى في اختتام جلسة الانتخاب تلك بتاريخ 17 يناير 2017 إِلى الإعلان التلقائي، وبصورة مقتضبة، عن بعض الأفكار والخطوط العريضة لتَصَوُّر شخصي لبرنامج عمل مستقبلي يمكن أن نفكر فيه جميعًا ونُحوِّلَه إلى خطة عمل استراتيجية ننجزها مع بعضنا البعض ونعتمدها بتنسيق وإسهام الهياكل السياسية للمجلس.
وعمليًّا، في التقاليد الديموقراطية والبرلمانية المغربية، فالرئيس يَشْرَع في ممارسة صلاحياته مباشرةً بعد انتخابه وصعوده إلى المنصة ليتبوأ مقعد الرئاسة. وطبعًا، بعد لحظة انتخابه تأتي لحظة أخرى لانتخاب مكتب مجلس النواب ورؤساء اللجن النيابية الدائمة والإعلان عن قائمة الفِرَق والمجموعات النيابية ورؤسائها ليشكل هذا الحدثُ الانطلاقَ الرَّسْميَّ لِعَمَلِ المجلس وممارسة اختصاصاته الدستورية ومهامه السياسية والبرلمانية. والنص الدستوري المغربي مثل أغلب دساتير العالم الديموقراطي لا يدخل في تفاصيل منصب رئيس مجلس النواب أو رئيس مجلس المستشارين. وعمومًا، تظل الدساتير في أغلب البلدان صامتةً بخصوص هذا الأمر تاركةً ذلك للأنظمة الداخلية للبرلمانات.
وخلافًا لعَدَدٍ من البرلمانات في العالم، فإن رئيس مجلس النواب (أو رئيس مجلس المستشارين، الغرفة الثانية للبرلمان) بمجرد انتخابه وإِلقاء كلمته يتَملَّكُ سلطته رئيسًا للمجلس، بمعنى أنه لا ينتظر قرارًا أو رسالة من أي مؤسسة دستورية أخرى تأذن له بمباشرة مهامه. كما لا ينص لا النص الدستوري ولا النظام الداخلي على أي بروتوكول يؤدي فيه الرئيس المُنْتَخَب بالضرورة القَسَم، لكن المُلَاحظ على العموم في تاريخ العمل البرلماني المغربي، منذ إنشاء أول برلمانٍ مُنْتَخَبٍ سنة 1963، أن أغلب الرؤساء السابقين سبق لهم أن تَحَمَّلوا مسؤوليات رسمية أو حكومية أُتيح لهم خلالها أداءُ القَسَم. وطبعًا، هناك برلمانات لابد فيها للرئيس المُنْتَخَب من أن ينتظر قرارًا مكتوبًا من سلطة أخرى من خارج البرلمان يأذن له بالشروع في ممارسة مهامه كرئيس بل هناك برلمانات لا تزال حتى اليوم لا تنتخِبُ رؤساءَها، وإِنما تنتظر أن يتم تعيينهم من سلطة أخرى خارج البرلمان.
وليس هذا موقوفًا فقط على أنظمة سياسية ديكتاتورية بل يجري ذلك حتى في بعض الدول الديموقراطية بسبب مرجعية تاريخية مُعَيَّنَة كما هو الشأن بالنسبة لمجلس اللوردات البريطاني أو بالنسبة لمجلس الشيوخ الأمريكي الذي نعرف أن رئيسه له صفة أخرى هو نائب(ة) الرئيس الأمريكي الذي يُنْتَخَبُ شعبيًّا في انتخابات الرئاسة الأمريكية التي يتم فيها انتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة الأمريكية ونائب له. وهناك حالات أخرى تتبع النموذج البريطاني في بعض دول الكُومُونْولت.
وهناك عدد من رؤساء المجالس البرلمانية، الأولى والثانية، لا يُسمح فيها للرئيس المُنْتَخب بمباشرة مهامه إِلَّا بعد أداء القَسَم مثل مجلس الشيوخ في كلٍّ من الأرجنتين والأوروغواي وبوليڤيا، وكذا في “رَاجْيَا سَابْهَا” الهندي الذي يؤدي فيه الرئيس القسم وجوبًا بصفته الأخرى، أي نائب رئيس الاتحاد الهندي. وبينما تُبْقي معظمُ البرلمانات على بروتوكول تنصيب رئيس المؤسسة التشريعية بصورة داخلية، خفيفة مُخْتَصَرة وسلسة مثل حالتنا المغربية، أشير إلى أن هناك عددًا قليلًا من البرلمانات يعتمد بروتوكول تنصيب رسمي لرئيس المؤسسة الجديد، بحضور السلطات العليا وأعضاء السلك الدبلوماسي المُعْتَمَد في البلاد. وتبدو لي مثل هذه البروتوكولات ثقيلة وبطيئة بالرغم من أن النية في اعتمادها تعود ربما إِلى تقوية المؤسسة التشريعية وتعزيز مكانتها وهيبتها كمؤسسة تمثل إِرادة الأمة وتعبر عن ضميرها الجماعي.
الجانب الآخر الذي أَعتبره أساسيًّا في التجربة البرلمانية العالمية، ويعرفه جيدًا المختصون في علم القانون المقارن كما أعرفُه شخصيًّا إلى حَدٍّ مَّا، وهو ليس من اختصاصي على كل حال، ولا ألجأ إليه هنا من باب السِّجَال أو المزايدة، وإنما من باب الاستئناس فحسب، وأقصد أن مسألة انتماء الرئيس المُنْتَخَب إِلى الأَغلبية ليست مسألةً آليةً أو نظامية دائمًا في جميع الأنظمة الديموقراطية.
ويمكن الرجوع في هذا الأَمر إلى كتاب جورج بُورْغُونْيو G.Bourgougnous “رئاسة المجالس البرلمانية الوطنية : دراسة مقارنة عالمية” الذي أشرف على إنجازه ونشره الاتحاد البرلماني الدولي سنة 1997.
وأبرز مثال يُسْتَشْهَدُ به في هذا الإطار هو نائب الرئيس الأمريكي الذي يمكنه أن يكون أو أن يصبح سياسيًّا وعدديًّا ممثلًا للأَقلية في مجلس الشيوخ ويظل رئيسًا لهذا المجلس. كما أن هناك مثالًا آخر في النظام البرلماني يستأنس به أهلُ الاختصاص، وأقصد الحالة التي يمكن فيها لرئيس الغرفة الثانية للبرلمان أن يكون منتميًّا إلى المعارضة (معارضًا للحكومة في مجلسه) ومنتميًّا في الآنِ نَفْسِهِ إِلى الأَغلبية التي تساند الحكومة في الغرفة الأولى.
ويمكن أن نجد رؤساء في بعض الأنظمة البرلمانية غير الأَغلبية (بلجيكا وإيطاليا مثلًا) يواصلون ممارسة صلاحياتهم رغم انحلال الأَغلبية التي كانوا ينتمون إِليها أَثناء الولاية التشريعية، ورغم أنهم يصبحون فجأةً في صف المعارضة.
ولا أحتاج إلى القول إن هذه المسألة لا تُطْرَح أصلًا في بعض الأنظمة البرلمانية ذات الحزب الوحيد. كما أن هناك أنظمة ديموقراطية لا تقوم فيها التجربة البرلمانية على أساس نَسَق حزبي، وبالتالي فلا مَعْنَى هناك لحديثٍ عن انتسابِ الرئيس أو عدمه إلى أغلبية أو أقلية (حالة الكويت مثلًا).

 


الكاتب : الحبيب المالكي

  

بتاريخ : 04/08/2021