الذات و الصورة الشعرية في «احتراق» نعيمة الرامي

 

من المؤكد أن لكل خطاب آلياته وخصائصه، فمتى تم الوعي بها، يمكن نحت بصمة خاصة في الاستعمال والرؤيا . لهذا، فللشعر لغته المنزاحة والمشبعة بالصور المدهشة، فضلا عن الإيقاع الساري بين مفاصل النص الشعري. طبعا، بالنسبة للشاعر، لا يتأتى ذلك من المعرفة النظرية فقط . بل من المقروء الشعري. كل هذا يحدث في الذات والواقع ؛أي لا بد من التجربة والمشاهدة والتأمل .فمن بين أهم الآليات الشعرية، نجد الصورة الفنية وهي من المفاهيم النقدية التي أولتها الدراسات الحديثة أهمية بالغة، كون القصيدة تنهض على التصوير الفني كشرطية إبداعية؛ تحقق للنص شعريته. وبالتالي حضور لغته الإيحائية التي تعدد الدلالة والصياغة اللغوية. مع التأكيد أن «للشعر الجديد أشكاله الخاصة، فللقصيدة الجديدة كيفيتها الخاصة، وطريقتها التعبيرية الخاصة، ولها بمعنى آخر نظامها الخاص» كما يطرح أدونيس في كتابه « زمن الشعر». وغير خاف، أن الصورة ـ وبالأخص منها الشعرية ـ تنهض في بنائها على تقنيات بلاغية قديمة وحديثة (تشبيه، مجاز، استعارة، خرق…) ؛ وعلى مكونات أساسية في التشكيل كالفاعلية النفسية والخيالية.. ..هنا تبدو الصورة كتركيب من المكونات ـ عبر لغة كثيفة ـ ؛في سعي دائم إلى ردم الهوة بين المعطيات، ضمن عالم تخييلي يشترط السياق وشعرية المواقع التواصلية . أصوغ هذا المدخل، و أنا أضع اليد على الديوان الشعري المعنون بـ» احتراق « للشاعرة نعيمة الرامي ( ضمن منشورات رابطة كاتبات المغرب ـ 2020 ). إنه ـ كما تخبر العتبة المركزية لهذه المجموعة ـ احتراق متعدد الوجوه والأشكال. فالذات تعبر عن حالاتها وانفعالاتها في علاقتها بالعالم الخارجي، انطلاقا من المحيط الحميمي إلى تناقضات المجتمع والحياة. فالمجموعة تجذب إليها التناقضات وتعيدها وفق بناء يزخر بالصور المتشكلة من فاعليات نفسية وتخييلية ورؤيوية . ومن الملاحظ أن الصور تترابط و تتشابك، في تصعيد درامي، يفضي لذروة عبر نهايات صادمة . نقرأ في مجموعة «احتراق « من قصيدة « وشم « ص 48 :

دعني أسحق صخبك
المتأجج
جراحا طافحة
في أحشائي
دعني أستفز
بقايا أشلائك
المتوارية نقوشا ناطقة
على جسدي
وشما
دعني أيها المارد
الشقي
السعيد
دعني أرسلك طيفا
تحيي أشباح الحروف
كل القبور
تلعن موتك مرتين

إن الصفات التي تتقمصها الذات غير عادية، أي أنها تمر كما يقر عز الدين إسماعيل في كتابه «الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية» بإحساس رهيف ولغة شعرية خاصة ورؤيا…أي خلفية المبدع والشاعر في الكتابة. فتتجسد تلك الصفات عبر لغة إيحائية، تنبني أساسا على توترات تركيبية وتواصلية مع اللغة المألوفة، ومع الأنساق الثقافية والتواصلية. فالذات تقاتل وتواجه العالم النمطي والمعوج،على طريقتها الفردية ؛ فتبدو كأنها في مواجهة مع الآخر، في صوره العديدة التي تحد من حرية الانطلاقة، والتمدد في عالم خال من الإكراهات والقيود .
غير خاف أن ما يميز الشعر المعاصر اليوم ، هو التعبير عن التشظي والتمزق بالصور التي تجمع بين عوالم متباعدة، ضمن توليف لغوي، على قدر كبير من الاتساق والانسجام . الأول يتعلق بالتركيب اللغوي الذي يقتضي اتساقا، من خلال ربط وإحالة ملائمتين . أما الثاني فمرتبط بالقارئ الذي يمارس التأويل انطلاقا من مشتركات، من بينها الواقع والشعر، إضافة إلى الذاكرة والأطر المرجعية المشتركة . ففي هذا الديوان ، فالشاعرة تخطو، لبناء نص متسق ومنسجم، من خلال تيمات حارقة . فاقتضى ذلك لغة مقامية تستغرق في الحالة .في هذا السياق يحضر الحجاج اللغوي الذي قدم عبر نفس شعري رهيف أو تليين الأساليب الحجاجية، هذا فضلا عن تقنية الحوار الخاضع لنسق الخطاب الشعري .
ثمة على الساحة الشعرية العربية الآن أصوات جميلة وعميقة، تنسج فرادتها ومشروعها الشعري، خارج العموميات التي تجنح إلى تصنيف الشعراء إلى ملل ؛ اعتمادا على إجراءات لا تمعن النظر في النصوص والآفاق الإبداعية. وبإمكان المقاربات المجهرية التي تنطلق من النص الواحد ؛ أن تجابه شعرية النصوص دون عموميات أو استلاب نظري يخدم أصول النظرية، ويجعل النص كتعلة لبناء استراتيجيات نقدية. وإذا حصل، يمكن أن نخلص إلى الإقرار بأن الكثير من القصائد العربية هنا.. هناك تتغذى على طاقة خلاقة تسبح في الألم الإنساني بأشكاله وألوانه. وبالتالي، تبدو المحاورات الشعرية واللحظات المشهدية حاضرة بقوة في التخييل الذاتي ـ الشعري الذي يعتمد الصورة، ليس كوسيلة إبلاغية فقط ؛بل كنفس في كينونة القصيدة. كما يظهر في هذه المجموعة الأولى للشاعرة نعيمة الرامي . ولي اليقين أن الشاعرة ستطور صورتها الشعرية على ضوء مشهدية المرحلة والإبحار في الشعر المتعدد الصيغ الجمالية . فلا بد من البحث إبداعا ،عن تلك الخصوصية والصوت الخاص الذي لا يتولد من الخطوة الأولى. والقادم أجمل .


الكاتب : عبد الغني فوزي

  

بتاريخ : 12/03/2021

أخبار مرتبطة

  قد تحمل الحرب الإسرائيلية الجارية علnى قطاع غزة  المفكر المغربي المعروف عبدالله العروي على التفكير في كتابة الجزء الخامس

تعني الكتابة في ما تعنيه، أن تتواجد في مكان آخر بينما أنت قابعٌ في مكان مّحدد المعالم، أي أن تكون

يرتقب أن تستقبل مؤسسة»أرشيف المغرب» معرضا خاصا بمسار عبد الواحد الراضي، القيادي الراحل في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وقبله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *