القصة القصيرة بالمغرب من الاهتمام بالحكاية إلى الانشغال بسؤال الكتابة

 

– 1 –
“مغامرات الكتابة في القصة القصيرة المعاصرة – القصة القصيرة بالمغرب نموذجا”(*) كتاب تطبيقي باهر بخلاصات لافتة. المرمى الأساس منه بالنسبة إلى صاحبه الناقد الأدبي الدكتور حسن المودن، هو “تأسيس افتراض” يرى أن القصة القصيرة لم تعد منشغلة بالحكاية فحسب، بل باتت تهجس بسؤال الكتابة ذاته. بمعنى أن الأخيرة لم تعد معنية بموضوعها القديم الذي لا يبتعد عن سرد الحكاية وتعقب تجارب الإنسان ومغامراته الحياتية واسترجاعها، بل باتت منشغلة بالكتابة في حد ذاتها باعتبارها موضوعا أو باعتبارها، على الأقل، أحد مواضيع القصة القصيرة.
بهذا المعنى لم تعد القصة قصة وسائلية، إن صح القول، تستند إلى رهان حمل موضوعها إلى قارئها بلغتها الخاصة، بل صارت تستند إلى رهان آخر، تجدر تسميته رهانا كيفيا بحكم أن النص القصصي القصير الجديد، بات يلتفت إلى ذاته أكثر من موضوعه، إذ لم تعد القصة القصيرة تقول موضوعها كيفما اتفق، بل لقد تحررت، كما يقول الناقد حسن المودن في مقدمة الكتاب، “من إسار المبنى القصصي التقليدي من خلال منطق سردي جديد أساسه التفكك والتشذير(…) وألبست البنية السردية ظلال الرؤيا الشعرية”. أصبحت القصة القصيرة، بهذا المعنى، تحتفي بذاتها وبالأشياء بلغة استعارية ترميزية تشاغب قارئها وتعطي لنفسها حق “مهاجمته في عقر طمأنينته” (التعبير هنا للناقدة خالدة سعيد). أمام هذا التحول “الجذري”، إن جاز القول، في بنية النص القصصي الجديد بات القارئ، يقول الناقد حسن المودن، أمام “كتابة موجهة بسخرية خفية وبغرابة كاسحة تسير بطيئا نحو اللاحكاية واللامعنى”.

– 2 –
خلافا للتقديم الذي أعُدّه تأطيرا نقديا نظريا عميقا، يأتي الكتاب في مجمله نقدا تطبيقيا اشتغل من خلاله الناقد حسن المودن على متن قصصي مغربي، بعُدّة المستكشف الذي يستقصي أسباب تحولات هذا المتن وأسرار مغامراته التجريبية المتجددة على الدوام. وربما لأن القصة القصيرة هي “لاشعور الأدب”، بحسب توصيف القاص الكبير أحمد بوزفور، فقد استرشد الناقد بمفاهيم التحليل النفسي الفرويدي، مستحضرا في الوقت ذاته، أزمنة كتابة هذا المتن وسياقات التاريخ والثقافة والأدب التي أحاطت به. وقد كانت غاية الناقد من كل هذا استبيان ما عرفته القصة القصيرة من تحولات نوعية لامسها من خلال أسئلة أوردها كالآتي:
“- هل تكتب القصة القصيرة اليوم كما تكتب بالأمس؟
– هل عرف هذا الجنس الأدبي تحولات في طرائق الكتابة ومناهجها وأشكالها؟
– ماذا أضافت الكاتبات اللواتي يتزايد عددهن اليوم إلى جنس القصة القصيرة؟
– إلى أي حد ساهم الكتاب والكاتبات في تأسيس مفهوم جديد للكتابة القصصية؟
– ما هي الشروط الموضوعية التي فرضت هذا التحول في مفهوم الكتابة؟”

هذه الأسئلة وقف عندها الناقد حسن المودن، عمليا، من خلال إنصات عميق إلى نصوص قصصية ارتبطت بمراحل تاريخية متفاوتة أوجزها في ثلاث محطات مركزية هي على التوالي:
– محطة التأسيس بما هي محطة كان فيها محمول القصة القصيرة محكوما ب”النزعة الوطنية”.
– محطة التأصيل وهي المحطة التي كانت فيها “النزعة الواقعية الاجتماعية” سمة أساسية في الكتابة القصصية.
– محطة التجريب وفيها هيمنت على الكتابة القصصية “نزعة تجريبية شكلانية”.
بيد أن الناقد حسن المودن لم يعدم وجود “عيوب” في هذا التصنيف الذي أورده. وقد عمد إلى جرد آراء اختلفت وتضاربت حول موضوع النشأة التي ترجع إلى العقد الأول من القرن العشرين، بحسب بعض مؤرخي الأدب، أو إلى العقدين الثاني والثالث أو الرابع والخامس بالنسبة إلى آخرين.
وبحسب التحقيب الذي وضعه الناقد حسن المودن، فإن القصة القصيرة في الحقبة الأولى خضعت، موضوعيا، لطبيعة التزامية، إذ بات شأن الكفاح من أجل الاستقلال موضوعا أساسيا، وباتت معه القصة القصيرة شكلا لا معنى له إلا برفده برسالة تحمل قيم الدفاع عن الوطن من أجل جلاء المستعمر. إلا أن هذا البعد الوسائلي، إن صح القول، في القصة القصيرة والمرتكز أساسا على الموضوع والذي يقول الخارج دون أي اهتمام بلغة القصة، ظل سمة الكتابة القصصية في المغرب حتى بعد الاستقلال. طبعا، لقد كان محرك الكتابة في ظل الاستعمار هو ضرورة ممارسة الصراع الوجودي ضد المحتل عبر كتابة لن تكون، حسب سياقها وزمنها، إلا رافضة ومحرضة ومعبئة وتوعوية وواعظة وحالمة، ونفس الهم ظل ديدنها حتى بعد الاستقلال، لأن الأدب عموما، يرى الناقد، “سيبقى وسيلة من وسائل الصراع السياسي والاجتماعي والثقافي”، إذ ستخوض القصة القصيرة (من موقعها) والأدب عموما صراعا طبقيا هذه المرة، فرضته فرضا التفاوتات الاجتماعية الظالمة التي تحكمت فيها الأقلية الساحقة التي خلفت الاستعمار واستبدت بالحكم. هكذا ظلت القصة القصيرة ملتزمة بما رأته، وقتها، ضرورة لابد منها: قول موضوعها.
من جانب آخر يطرح الناقد حسن المودن أسئلة تهم تحولات الشكل في هذا الجنس القصصي القصير، وبدايات الالتفات إلى الشكل الفني كأفق جديد في الكتابة، والانتقال مما يقول “كتابة تجربة أو مغامرة ما” إلى “تجريب الكتابة واعتبار الكتابة نفسها مغامرة”.
ولئن كانت بداية تاريخ القصة القصيرة بالمغرب مسألة خلافية، فإن موضوع بدايات تطور الأخيرة في اتجاه التجريب يبقى هو كذلك أمرا مختلفا عليه.
لقد بدأت مسألة التجريب في القصة القصيرة، بحسب الناقد حسن المودن، أواخر الستينات من القرن الماضي مع من رأى أنهم “زلزلوا المفاهيم والتصورات السائدة عن الكتابة القصصية”، وعلى رأسهم القاص والأديب أمين الخمليشي، صاحب “الحوليات القصصية” كما وصفه الناقد نجيب العوفي، فيما يورد رأيا مخالفا للكاتب والناقد محمد برادة الذي يجزم أن “بداية الستينات كانت لحظة انطلاق تجارب جديدة”، مستدلا على ذلك بـ”انفتاح الجامعة المغربية على نصوص جديدة من الشرق ومن الغرب”، موردا أسبابا أخرى مرتبطة بالتحولات الاجتماعية والسياسية التي باتت “تستلزم لغة وأشكالا جديدة” في الكتابة. وقد عزز الناقد الكلام عن بدايات انخراط القصة القصيرة في الأفق الكتابي الجديد برأي الكاتب والناقد أحمد المديني الذي رأى أن العقدين السادس والسابع من القرن العشرين كانا بداية الاهتمام بالأشكال الفنية، إذ بدأت تباشير كتابة قصصية جديدة “تدعو إلى توسيع النموذج الواقعي السائد والبحث في واقع آخر غير الواقع الجمعي الخارجي الحضوري والالتفات إلى الواقع الفردي الداخلي اللامرئي، وتحرير الكتابة من سلطان الوعي وتفجير خزان اللاوعي”. ويستدل الناقد على هذه المرحلة الانتقالية (إن صح لي القول) بأسماء من مثل محمد برادة وإدريس الخوري ومصطفى المسناوي وأحمد بوزفور وأحمد المديني ومحمد عز الدين التازي، وهي الأسماء التي استثمرت (يقول) “الحلمي والغرائبي والعجائبي والاستيهامي”. وقد وصل التجريب إلى حدوده القصوى في أواخر القرن الماضي وبداية القرن الجديد.

– 3 –
يواصل الناقد حسن المودن الكلام ملتفتا إلى مفهوم التجريب الذي تدوول بشكل كبير من غير أن يتم التدقيق في معناه. وقد دخل إلى كنهه من باب السؤال: ما الذي يجعلنا نصف نصا بأنه نص تجريبي؟
سؤال أساسي يقترح الدكتور حسن المودن إجابات عنه من خلال ربط التجريب بمسألة التحرر، ويقصد بذلك التحرر من التقليد. فالنص الجديد، يقول، لا يريد أن يقلد نصا سابقا، وهو بهذا ينحو نحو التحرر “من تقاليد القول القصصي” في سعي إلى أدوات وطرائق جديدة للتخييل والكتابة، بما معناه أن الكتابة في ذاتها (وليس ما تقوله) أضحت هما أساسيا. صارت بمعنى آخر، “كتابة مغامرة”.
يشير الناقد بهذا الصدد إلى نصوص تجريبية يقول إنها “لا تؤمن بالمهادنة، وتعتبر التجريب ورشا مفتوحا للاختبار المتواصل وعدم الاستقرار والحفر الدائم في أسرار الكتابة”، ويرى أن هذا النوع من التجريب لم تعرفه القصة القصيرة بالمغرب إلا منذ التسعينات من القرن الماضي. هنا ينعطف الناقد حسن المودن صوب النصف الثاني من القرن الماضي ليقف عند تيارات جديدة في الكتابة السردية في أوروبا وأمريكا الجنوبية والشمالية والعالم العربي، حاولت “تفجير إمكانات التخييل إلى أبعد الحدود”، التخييل الذي (يقول) “يخلخل العقلانية المتضخمة التي تتحكم في التقاليد الأدبية ويكشف الجانب اللاعقلاني واللعبي في الإنسان وحياته وعالمه”.
في خلاصة مهمة جدا، يقول الناقد إن التجريبيين صارت لهم رؤية متفردة للعالم الذي لم يعد، بالنسبة إليهم، في حاجة إلى التفسير أو الفهم، بل باتوا يرون إليه كـ”تجربة بالمعنى الذي يجعل من الكتابة لا كتابة تجربة ما، بل يجعل منها تجربة في الكتابة، أي أن الكتابة تتحول هي نفسها إلى مغامرة”.
وفي ما يبدو شرحا لما سبق أو تنويعا عليه، يرى حسن المودن أن القصة القصيرة تحولت من محكي نمطي مألوف وقائم على “تمثيل العالم” إلى “شيء صعب ولا نمطي، غامض وحيوي، مثير ومقلق (…) لم يعد الأمر يتعلق بإعادة إنتاج الحياة، بل باكتشاف يتم عبر اللغة وبتخييل فائض مفرط لا يحاكي الواقع بل يعرض الجانب التخييلي للواقع”.

– 4 –
اهتدى الناقد حسن المودن، في الأخير، إلى أن النصوص القصصية التجريبية أضحت كما لو أنها “جنس أدبي غير قابل للإدراك”، وفي هذا الصدد لا يتردد في وصفها بالهجانة والالتباس والانقسام والتردد، وهي التوصيفات التي لا يرى فيها أية حمولة سلبية، بل إن النص التجريبي بهذه المواصفات، إنما يمجد ذكاء القارئ، أو بالأحرى يكون “منحازا إلى ذكاء الإنسان” كما يعبر الناقد، وهذه النقطة تفضي بنا إلى:
علاقة القارئ مع النص التجريبي:
بحسب طبيعة القصة التجريبية، يرى الناقد حسن المودن أن الأخيرة “لم تنجح إلا قليلا في توسيع حضورها وانتشارها مقارنة مع القصة الواقعية الاجتماعية”، لأنها تحولت في الغالب (يقول) إلى “شيء غير قابل للقراءة”، وهو ما ترتب عنه تقلص واضح في قاعدة قرائها، لتصير في النهاية جنسا أدبيا نخبويا.
وفي ما يشبه عملية التقابل يشير الناقد حسن المودن إلى أن الأدب بدأ مع التجريب يتحرر من الخطاب الإيديولوجي الذي كان السمة البارزة التي أطرت أدب المحطتين المذكورتين أعلاه، وبدأ الكاتب التجريبي يعنى بالأدب من حيث هو أدب أولا، مع وجوب النظر إليه “كغاية لا وسيلة في الصراعات الاجتماعية والإيديولوجية”. إلا أن هذه الخصوصية الجديدة والمغايرة للقصة التجريبية، بحسب الناقد حسن المودن، أدت إلى “انغلاق الكتابة على ذاتها”، لتبتعد في النهاية عن “وظيفتها التداولية النفعية لصالح وظيفتها الشعرية الجمالية الخالصة”. إلا أن ثمة أسبابا مبتكرة كسرت الطوق عن القصة القصيرة بالمغرب، خلال السنوات الأخيرة، يجملها الناقد في بعض الآليات الجديدة التي سمحت بالانفتاح على المجتمع من مثل المواكبات النقدية الحثيثة، والظهور اللافت للجمعيات الأدبية المتخصصة ومجموعات البحث، وكلها كرست أشغالها للتعريف بأشكال الكتابة الجديدة.


الكاتب : زهير فخري

  

بتاريخ : 15/10/2021

أخبار مرتبطة

تعني الكتابة في ما تعنيه، أن تتواجد في مكان آخر بينما أنت قابعٌ في مكان مّحدد المعالم، أي أن تكون

يرتقب أن تستقبل مؤسسة»أرشيف المغرب» معرضا خاصا بمسار عبد الواحد الراضي، القيادي الراحل في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وقبله

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *