المسرحي العربي سلام .. ذاكرة مدينة

المغربي العربي سلام، لمن لا يعرفه، كاتب وممثّلٌ مسرحي ورجل الخشبة المحترف منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي. منذ دار الشباب الزرقطوني بالخميسات ثم دار الشباب 20 غشت إلى فترة التألق مع «جمعيّة الجرس»، والتي يعتبر واحدًا من أعضائها المؤسّسين النشيطين، والممثلَ الشاهد على تطوّر المسرح المغربي من الهواية إلى الاحتراف، وأحد الذين حَضَروا موائد النقاش المسرحي بالمغرب وخارجه.
وقد أشادت بموهبة الرجل الصحافةُ الثقافية بالمغرب في فترة التسعينيات، إذ يبدو العربي في الصوّر شامخًا فوق الخشبة يُضيئه العرق في إشارةٍ إلى أنّ الرّجل كان جدّيا في نقل الحياة إلى الخشبة، والقدرة على اختلاس الابتسامة من الجمهور الذي تغصّ به القاعة في زمن الملك الحسن الثاني ووزيره في الداخلية ادريس البصري، حيث كان كلّ شيءٍ على مقاس. إنه الإمبراطور نيرون الذي أحرق روما بلا رحمة في مسرحية «نيرون السفير المتجوّل» للراحل محمد مسكين، وشخصيّة الرّعد المدوّي في عربات القطار في مسرحية «الوجوه والأقنعة» للكاتب المسرحي عبد الكريم برشيد.
بالموازاة مع الممارسة المسرحيّة، اهتم العربي سلام بالتّصوير الفوتوغرافي وتعلّق بفنّ الصورة باكرًا. وتطوّع أبديًّا في توثيق الأمسيات والندوات الثقافية بالمدينة، بل سافر وقطع الكيلومترات من أجل هذه المهمة، حيث تجده حاضرًا قبل الموعد بعُدّة كاملة، بكاميرا متدلية على الصدر وابتسامة فنيّة يُروّض بها توتّر الحاضرين، يتنقل خفيفًا بين الزوايا ويغمز. وإذا وجدته يقترب منك فاعلم أنك ستحظى بأحسنٍ صورة. إنه محمد مرادجي الثاني من دون أن يكون قد صادق يومًا الملكَ ولا الأميرَ.
إلى هذا، فالرّجل يملك أرشيفًا مهمًّا من الصّور عن تاريخ الجمعيّات، وشوارع المدينة وشخوصها البوهيميين. وعن الحيّ الإداري القديم والنافورات التي جفّ ماؤها. عن «مقر اليونسكو» والزّجال الراحل محمد الراشق، والغابة المجاورة بأشجارها العالية حيث أسماء العشّاق المخذولين محفورة بغضبٍ على الجذوع. بل يعرف حتّى أسماء عُمّال الملك الذين تعاقبوا على المدينة وحوّلوا حدائقها إلى إسمنت وآجر، وأسماءَ تجار الجملة الأولين. مثلما اقتفى بعينيه أسواق الخضر التي غيّرت مكانها أكثر من مرّة دون أن تجد لها مستقرًّا، إنه ذاكرة المدينة بحقٍّ، فقط عليك أن تعرف كيف تجرّه برفقٍ ثمّ تتراجع إلى الخلف لتستوي وتسمع.
وأقوى المداخل إلى سيرة المسرحي العربي سلام، هو انخراطه المبكّر في صفوف الاتحاد الاشتراكي حيث جايلَ أسماءً كانت يتساوى عندها أبناء الشعب وأبناء الحزب مع الأبناء البيولوجيين. وعاين العربي فوضى وبؤسَ انتخابات التسعينيات حيث كانت حملة الانتخابات تستمّر إلى ساعة متأخرّة من الليل بالهراوات والسكاكين وبالمقابل تُكسَّرُ الصناديق أو يُهرب بها. وحَدثَ أن اعتقل العربي بسبب مواقفه الجريئة من دون أن يتخذ من تجربة السجن يافطة يُشهرها بلا مناسبة أو يبتز بها ودّ الآخرين أو يفسد الحفلَ حتّى.
إنه متقشف حتى في تقديم نفسه، ولا أدري هل سيقبل إن قلتُ إنّه أعطى ولم يأخذ. وهو في هذه النقطة يوفّر لنفسه أخلاق الفن، وأخلاق السياسة إن كانت مازالت للسياسة في بلادنا أخلاقُ. ويؤمن بالاختلاف ويُصادِق الكلّ، تجده في الصَّباح واقفًا مع مناضلي الاشتراكي الموحد مثلما قد تجده في المساء يشرب الشاي في شارع محمد الخامس مع رفاق حزب النهج الديموقراطي دون أن يَحيدَ عن المكان الصائب الذي اختاره لنفسه، هو الذي انخرط مبكّرًا في الايمان بالاختلاف والتعدّد، وتوَّحَدَ مع قناعاته ونَهَج الطريق الأنسبَ لظله. أما الديموقراطية فتُلاحظ ولا توصفُ.
تعرّفت عليه باكرًا حين كان يسبقني بخطوات في الحياة، تم بعد ذلك في المقهى وأنا أشقى للنشر في الملاحق الثقافية، ولم يتغير العربي إلا نحو الأجمل ونحو الحياة والشّعر. ولا أعرف لماذا لم يجرّب الكتابة الشّعرية بالرغم من أنّه قارئ جيّدٌ للأدب الأمريكي اللاتيني، وحافظ لعيون الشعر العربي، وملّمٌ بالقصائد المغنّاة، خصوصًا مرحلة مجد الأغنيّة المغربيّة. وأشعر أن الرّجل واحدٌ من شعراء قصيدة النثر الموهوبين والضائعين على أرض المغرب، والذين دعستهم المؤسسة الشعرية عمدًا، وجلس متوترّا يحشو جيوب القصيدة بالديناميت كي تنفجر. إمّا أن نعيش جميعًا وإمّا نموتَ جميعًا.
ولماذا لا أحسم فأقول إنّ العربي سلام شاعرٌ، نحن الذين وصلنا إلى زمنٍ أصبحت فيه صفة «الشاعر» موضة نقدية وحساسية شعرية جديدة. أمّا العربي فهو شاعرٌ بطريقته وبمدوّنته الشعرية الخاصة وبلا قصائد. أليس الشاعر المغربي عبد الرحيم الصايل شاعرًا حقيقيا وموهوبا، وإن كانت قصائده التي ظهرت للقرّاء محدودة نسبيا، ولم ينشر ديوانه الأوّل لحدّ الأن، لكن من يستطيع أن يُناقش في قصيدة الصايل، وفي شاعريّة الرّجل الذي خلقه الله ليكتب الشّعر في مدينة أسفي الجنوبيّة، ويحلق بمخيلته المرعبة في أماكنَ بعيدة؟
ولا نحتاج، مع العربي سلام، إلى دفوعاتٍ إضافية ومخارج موضوعية أخرى كي نقول إنه شاعرٌ حقيقي، خصوصًا حين يجرّك من يدك ليطلعك على دراجته الهوائية الجديدة التي صارت تركض سريعًا من الأولى، أو حين يساعدك في إصلاح سكّة الحقيبة أو يحدثك عن مربّعات الزليج الموجودة بمقر جمعية المحامين الشباب، أو حين يوصيك خيرًا بصديقتك فيبتسم. شخصيًّا، أجده بعيدًا عن أولئك البرجوازيين الذين تحتاج معهم إلى حقيبة براغي كي تفكّ حياتهم الغامضة والمغلفة بالأسرار التافهة.
أحبّه منطلقًا في المساء من عمق شارع محمد الخامس، متوقفا عند القرص الأحمر حيث مقهى النخيل على اليمين، وإقامة العامل على اليسار، ليعرّج يمينا مخترقا الحي الاداري تاركًا ثانوية موسى بن نصير وبائعي العلف على اليسار، مرورًا بمقرّ العمالة وصف المدارس الخصوصية. هكذا يطمئن العربي سلام على المدينة وذكرياتها على متن دراجة هوائية نشيطة دون أن يلوّث هواءً أو يزمّر على أحدٍ. وهو الذي قضى حياته يغرس أشجار الفنّ والمحبّة قبل أن يعود إلى مكتبه في العمل ويربطها بخراطيمَ ميّاه كي تنمو. آهٍ يا صديقي كم غرسنا من الأشجار ورتبّنا البتلات في أصصٍ من طين على حواف القلب، وكم ذوت الأغصان وقاومنا ألا نبكي!
تقاعد العربي سلام عن الوظيفة مؤخرًا، بعد مسيرة مهنيّة ناجحة في المكتب الوطني للماء، وتفرّغ للكتابة المسرحيّة والتمثيل وفن الصورة.


الكاتب : حسن بولهويشات

  

بتاريخ : 21/05/2022