المغرب الزنجي – 16- البرتغاليون يسرقون من المغرب الريادة في تجارة الذهب والعبيد في القرن 15

صدرت منذ سنة ونصف الطبعة الثانية، من الترجمة الفرنسية لكتاب الباحث المغربي شوقي هامل، الحامل لعنوان: «المغرب الزنجي» (البعض يترجمه حرفيا ب «المغرب الأسود» وهي ترجمة غير دقيقة)، ضمن منشورات «ملتقى الطرق» بالدار البيضاء، التي أنجزتها الفرنسية آن ماري تويسن. وهو كتاب إشكالي، معرفيا وأكاديميا، يقارب واحدة من أعمق وأهم القضايا الثقافية والفكرية والتاريخية، ليس بالمغرب فقط، بل في كل الشمال الغربي لإفريقيا، ضمن المجال الذي بلغه ما يمكن وصفه ب «الإسلام المغربي» بمرجعيته المذهبية المالكية وبمدرسته في العبادات والعقائد (الأشعرية على طريقة الجنيد)، التي تبقى موروثا أندلسيا بها، سجلت لاختلاف واضح وكبير عن كل التجارب التأطيرية والفكرية والمذهبية بالمشرق العربي والإسلامي. وهي موضوعة «العبودية» وتبعاتها من سلوكيات عنصرية ضد «الزنجي» الأسود بها.
الكتاب الذي صدر في الأصل باللغة الإنجليزية، للباحث الأكاديمي شوقي هامل، الأستاذ المحاضر بجامعة أريزونا الأمريكية سنة 2013، ضمن منشورات جامعة كامبردج، يقدم مقاربة علمية جديدة لموضوعة «العبودية» ضمن التاريخ الإجتماعي للمغاربة، تأسيسا على ما يمنحه التأويل للنصوص الدينية ضمن مدرسة فقه النوازل المغربية. وهي مقاربة أكاديمية تسجل اختلافها من مرجعيتها الأنغلوساكسونية، المختلفة تماما عن المرجعية «الأفريقانية الفرنسية»، التي لها منطلقاتها المعرفية وإسقاطاتها التأويلية. وهي مرجعية أنغلوساكسونية أمريكية بالتحديد، تجد سندها في كم وحجم الثقافة الأكاديمية الهائلة الدارسة لموضوعة «العنصرية والعبودية» السوداء كما تجلت في التاريخ الأمريكي منذ القرن 17 الميلادي حتى اليوم.
بالتالي، فإن مغامرة ترجمة أجزاء كبيرة من هذا الكتاب الأكاديمي الهام، إنما تهدف إلى محاولة تقديم مقاربة معرفية أخرى لموضوع شائك مثل موضوع «العبودية والزنوجة» بالمغرب، تاريخيا وثقافيا وسلوكيا، من مرجعية فكرية مختلفة عن تلك التي تعودناها ضمن المنتوج الجامعي باللغة الفرنسية. خاصة وأن نقطة «قوة» (إن جاز لنا هذا التعبير) مقاربة الباحث المغربي شوقي الهامل، كامنة في أنه أصلا متمثل للثقافة والمعرفة الأكاديمية الفرنسية في هذا الباب، بسبب كونه خريج جامعة السوربون بباريس، التي حصل بها على الدكتوراه في التاريخ، مثلما اشتغل لسنوات هناك ضمن «مركز الدراسات الإفريقية» حيث تخصص في دراسة واقع إفريقيا ما بعد الإستعمار بمجتمعاتها التي تدين بالدين الإسلامي.

 

لم يعمر كثيرا النصر الذي حققه السلطان (المريني) أبوعنان فارس المتوفى مقتولا سنة 1358 ميلادية، وهو النصر الذي مكنه من التحكم ليس فقط في المغرب، بل في الجزائر وتونس، وكان طموحه السيطرة أيضا على إفريقيا الغربية. لكن، سيقع صريعا للمرض، ثم ما لبث وزيره الأول أن قام بخنقه وقتله، مما جعل تلك الطموحات السلطانية (المغربية) تموت معه. ليأتي بعده الوطاسيون (الأمازيغ الزناتيون)، الذين لم يفلح وزراؤهم في الحفاظ على تلك الإمبراطورية. مما دشن لمرحلة جديدة من تغير المجال الجيو- سياسي للتجارة، خاصة مع ظهور فاعلين دوليين جدد منافسين على التجارة الإفريقية عبر الصحراء.
شرع البرتغاليون في أولى محاولاتهم وضع اليد على الشواطئ الأطلسية للمغرب، وشكل حضورهم ابتداء من سنة 1434 ميلادية على امتداد الشواطئ الأطلسية لغرب إفريقيا، ما بعد بوجدور (بالصحراء الغربية المغربية)، انعطافة تاريخية فتحت الشواطئ الأطلنتية المربحة أمام أروبا، كان لها تأثير حاسم على طرق التجارة جنوب الصحراء. حيث عمل القادة البرتغاليون والقشتاليون، عبر تقدمهم في المجال الأطلسي لغرب إفريقيا، على قطع أسباب الصلة بين مغاربة غرناطة بالأندلس وإخوتهم بشمال غرب إفريقيا، بغاية منع تجدد انبثاق أية إمبراطورية مغربية مسلمة جديدة، من قيمة الموحدين في القرن 11 الميلادي. فكانت النتيجة أن البرتغاليين بفتحهم طرق التجارة عبر البحر، قد طوقوا دور الوساطة التي كان يلعبها المغرب وضربوا اقتصاده في مقتل، مما أنهى كل النظام السابق عبر الصحراء، الذي كان مصدر قوة قيام مختلف الإمبراطوريات المغربية بغرب إفريقيا. ومن آخر الدراسات المهمة في هذا الباب، العمل الذي أنجزته الباحثة غيزلين لايدن «مسارات عبر الصحراء: قانون الشريعة لشبكات التجارة، والتبادل بين الثقافات في القرن 19 بغرب إفريقيا»، الصادر عن منشورات جامعة كامبردج سنة 2009. حيث يقدم هذا العمل معلومات عن الدينامية الاجتماعية بالصحراء الغربية وبمنطقة الساحل، عبر دراسة تاريخ التحالفات بين مختلف المجموعات داخل وخارج ذلك المجال الممتد.

تمدد الشتات:
تفاعل شبكات التجارة الأطلسية والصحراوية

إن العلاقة بين الإسلام والتجارة بإفريقيا جنوب الصحراء، هي واقع تاريخي ملموس. ما جعل صيرورة الأسلمة بها قد أثر على الثقافة والمجتمع والإقتصاد بكامل إفريقيا الغربية. حيث أصبحت الديانة الإسلامية فاعلا محوريا في إعادة هويتهم الإثنية ضمن مجموعات متعددة من قبيل الفولاني والسونيكي والبمبارا وفيما بعد عند مجموعات الهاوسا. فقد شكلت المعتقدات الدينية محددا محوريا لهويتهم.
كان التجار منهم، والنخب القائدة من الأوائل الذين اعتنقوا الدين الجديد، بعد دخولهم في علاقة تعاون وتبادل مع التجار والدعاة المسلمين (من المغرب). وحسب كل من نيهيميا ليتزيون وراندال بويل، المتخصصان في إسلام غرب إفريقيا، فإنه «منذ القرن 11 الميلادي، تجول التجار المتحدثون بلغة المانديغ (التي هي سابقة على لغة جوالا)، بين محطات نهاية مسارات طرق التجارة الصحراوية ومناجم الذهب، حيث شكلوا نوعا من الشتات التجاري». وأصبحت مسألة اعتناق الإسلام ضرورة ملحة لكل من يرغب في الإنخراط ضمن شبكات التجارة الجديدة. ولقد فتح أولئك التجار الباب أمام انتشار الإسلام في أقصى النقط البعيدة بتلك المناطق.
يقترح هنا، كل من محمد الفاسي وإيفان هربيك، تحليلا رائعا حول «شتات أولئك التجار»، قائلين:
«إن تفسير ذلك الأمر كامن في العوامل الاقتصادية والإجتماعية. فالإسلام الذي ولد ضمن مجتمع تجاري بمكة، وبشر به رسول كان هو بدوره تاجرا لسنوات، يقدم جملة من المبادئ الأخلاقية والعملية الشديدة الإرتباط بأمور التجارة. ولقد شكل ذلك الميثاق الأخلاقي عنصرا مساعدا لمراقبة العلاقات التجارية، وقدم إيديولوجيا توحيدية ما بين أعضاء مختلف الإثنيات، مما قوى من لحمة الأمان والسلفات والقروض، التي هي عناصر حاسمة وإلزامية في كل تجارة بعيدة المدى». (أنظر كتابهما «مجمل تاريخ إفريقيا، من القرن السابع حتى القرن الحادي عشر الميلاديين» الصادر بلندن سنة 1992، ضمن منشورات جيمس كوراي).
والظاهر أن فضاء الصحراء يشكل عنصر ربط وتفاعل. لأنه، فوق التباينات التي تضع الحدود الجغرافية بين المجموعات المتجاورة كإثنيات ذات خصوصيات معينة، فإن الصحراء في امتدادها قد واشجت بين المجموعات المتباعدة والمختلفة. حيث كتب المؤرخ الفرنسي فيرناند بروديل (المتوفى سنة 1985 ميلادية)، في كتابه الأشهر حول العالم المتوسطي: «لقد كبرت الحضارة المتوسطية تحت التأثير الفعال للفراغ وللبحر، أي مجال مأهول بالقوارب والسفن، والآخر بالقوافل والقبائل من الرحل. والإسلام، مثله مثل البحر والصحراء، يفرض الحركة». وعلى ذات الشاكلة التي كانت فيها التجارة عبر الأطلسي متأثرة بمسارات التجار والمنقبين المتوسطيين، يؤكد بروديل، فإن «الأطلسي قد تعلم من المتوسطي، بالشكل الذي أكد مجددا أن التاريخ ليس نتيجة لخصوصيات جغرافية، لكن الإنسان هو الذي يتحكم في تلك الخصوصيات أو يكتشفها».
إن التلاقي البكر بين المغرب والبرتغال حول التجارة الأطلنتية قد خدم الأروبيين من حيث إنه كان ورشة تجريب لهم مع تجارة إفريقيا جنوب الصحراء ثم مع التجارة عبر الأطلسي. لأنه قبل أن تقرر البرتغال الإبحار عبر المحيط الأطلنتي في القرن 15 الميلادي، على عهد الأمير هنري البحار الذي توفي سنة 1460 ميلادية، للعبور إلى جنوب إفريقيا بغاية الوصول إلى امتلاك منتجات وسلع الهند، فإن البروفة المغربية كانت ضرورية كمرحلة أولية للتجريب. لهذا السبب، فإن وصف تلك الغزوات البرتغالية في الأطلنتي، بأنها كانت رحلات اسكتشاف وتنقيب، أمر لا يستقيم هنا، لأن تلك الرحلات لم تكن بدافع علمي، بل بغاية اقتصادية لفائدة بلدان أروبا الغربية، لتجاوز ذلك البعد الذي يحول بينهم ومناجم الذهب وأسواق العبيد بإفريقيا، ثم الوصول إلى المحيط الهندي وأسواقه، التي كانت لقرون تحت سيطرة المسلمين.
يؤكد أستاذ التاريخ الأروبي المعاصر، الفرنسي بيير شونو، أن تملك العبيد عبر الشواطئ الإفريقية كان الدافع الرئيسي للرحلات الأطلنتية. وأنه في سنة 1441 ميلادية، حين بعث الأمير البرتغالي هنري البحار القبطان آنتام غونزاليس للحصول على الجلود والزيوت، اعتبر هذا الأخير أنه سيكون مفيدا أيضا شراء العبيد. ومما يورده المؤرخ البرتغالي غوميز إيانيس دو آزورارا المتوفى سنة 1474 ميلادية، أنه قد قال: «كم سيكون جيدا إذا ما قمنا نحن القادمون إلى هذه البلاد من أجل سلع ليست ذات قيمة كبيرة، باقتناص أول الأسرى لتقديمهم في حضرة أميرنا». وبالفعل، فقد قام غونزاليس بأسر عدد من السكان المحليين من منطقة وادي الذهب (المغربية اليوم)، وحملهم معه إلى البرتغال.
كان البرتغاليون، أول من أطلق على الوادي الذي يصب في البحر من الصحراء المغربية، إسم «وادي الذهب»، لأنه كان (كما يورد ذلك فلانتيم فيرنانديز في كتابه الصادر بباريس ضمن منشورات لاروس، تحت عنوان «وصف الواجهة الإفريقية من سبتة حتى السنغال»)، الموضع الأول الذي ابتدأ فيه البرتغاليون في شراء الذهب والعبيد الزنوج السود. ولقد نجح واحد من أولئك الأسرى المغاربة، من الأمازيغ الصنهاجيين، واسمه آداهو، في إقناع البرتغاليين بمبادلته مع ستة زنوج سود مغاربة، وأنه مستعد لمبادلة أخرى مماثلة من أجل شابين آخرين من قبيلته. بل إن مما يورده المؤرخ دو آزورارا، أن آداهو ذاك كان يقدم معلومات للبرتغاليين حول الساكنة الزنجية والشبكات التجارية في داخل إفريقيا الغربية. ولقد استنتجوا عبره الكثير من أسباب المعرفة حول شكل تمثل الأمازيغ للمجموعات الزنجية التي انتقلت إلى البرتغاليين (وتبنوها). ولقد أعاد ذلك القبطان البرتغالي، ذلك الأسير المغربي الأمازيغي آداهو إلى منطقة وادي الذهب رفقة شابين آخرين، لكنه سيتمكن من الفرار، مما جعل غونزاليس يصدر الأمر لمرافقيه أن لا يثقوا أبدا في أي فرد من تلك الفئة، ماعدا في حال توفر ضمانات دامغة، مكتفيا بمبادلة الشابين الآخرين بعشرة زنوج سود (رجالا ونساء)، وبعض قليل من غبار الذهب وحزمة من جلود البقر وبيض النعام.


الكاتب : شوقي الهامل n ترجمة: لحسن العسبي

  

بتاريخ : 03/08/2021