«المفكر محمد عابد الجابري» و العقلانية النهضوية

كلما اقترب الثالث من ماي من كل سنة، نستحضر لحظة رحيل هرم الفكر الفلسفي والنقد العقلاني « محمد عابد الجابري»، فهو الغائب الحاضر في الوقت نفسه بعلمه ومشروعه الفكري الضخم الذي قدَّمهُ في نقد العقل العربي ، وهو الداعي إلى العقلانية والنهضة والتنوير والتحرر، لقد كان كما قيل : «مالئ الدنيا و شاغل الناس» في حياته وبعد مماته ، بحراكه الفكري ومقاربته العقلانية للنسق الفكري والديني والاسلامي ومشروعه العقلاني النهضوي. والمتبصر في عقلانية الجابري يجد أجوبة عديدة لتساؤلات شغلت الناس في مجتمعاتنا من خلال النرجسية الاقتصادية والتجارة المتوحشة التي أصبحت موضوع كل صغير وكبير حتى تفنن القائمون على هذه الأوضاع السيئة- التي أضحى المجتمع يتجرع سمها الطبقة الفقيرة – بالإدلاء بحججهم الواهية التي ألفها الجميع. هذا ما يجعلنا نؤكد أن ما يحصل وما سيحصل مستقبلا من تفقير للمجتمع فوق فقره هو نتيجة لبنية العقل الفردي المتوحش الذي يسعى إلى تحقيق غايته عى حساب الآخر الضعيف . فلو كان العقل بعقلانيته حاضرا الوعي الجمعي بعقلانيته أيضا حاضرا ، مع تحكم الأنا الأعلى في كل ما من شأنه أن يخرب المجتمع، لاستقرت الأوضاع واحترم الأنا الآخر .
إن تقدم المجتمعات والأمم يحتاج إلى عقل ونقد للعقل من أجل تحقيق النهضة التي ينتظرها المجتمع في كل وقت وحين، وإذا غاب العقل وتعطلت آليته وتوقف النقد وانطفأت شمعته، فإننا سنسير في مجتمع مظلم لا يعرف النهضة والتنوير .وحينما نسير في مجتمع يأكل القوي فيه الضعيف وترسم النرجسية والأنانية خطوطها نحو بلوغ غاية فردانية وتمارس جميع أنواع السرقة والعنف والربح غير الحلال على حساب الضعيف، حينها ندرك أننا فعلا نحتاج إلى وعي جمعي ندافع فيه عن الحق ونرسم خطوط نجاح الجماعة لا نجاح الفرد ، فهل يمكن تحقيق نهضة بدون عقل ناهض؟ كما قال الجابري.
لقد كانت حياة الجابري – رحمه الله- حافلة بالجهد الفكري والفلسفي، حيث كان من الذين حفروا على الصَّخر بنظرته الدقيقة للتراث وعلاقته بالحاضر . فغالبا ما كان يُغَلِّبُ المسار الفكري والعلمي على مسار السياسة ونرى اليوم أن المشروع السياسي عند البعض أصبح سعيا نحو تحقيق غاية فردية، ويعتبرها فرصة عمر قد لا تتكرر إطلاقا فيقضي حينها على الأخضر و اليابس ،لكن ما أحوجنا – كما ذكر الجابري- إلى المدخل الإبستيمولوجي والعقلاني والوعي الجمعي الذي يعد المدخل الأنسب للنهضة والكرامة الجماعية ، وقد تفطَّن إلى أن تحقيق النهضة والتنوير والتحرر لا يتأتى إلا بالنسق الإبستيمولوجي والوعي الجمعي والعقلانية التي تنظر لحاجة المجتمع لا لحاجة الفرد .وأما أن تحضر الإيديولوجية والفكر الاستثماري والسعي نحو تحقيقه على حساب الغير، مع غياب حكمة العقل الجمعي ومحبة الآخر، فتلك قسمة ضيزى ستهلك الضعيف فوق ضعفه .
إن الغاية السامية التي خطط لها الجابري في مشروعه الفكري لقراءة التراث والنبش فيه و سبر أغواره، ليست نظرة إلى فهم الماضي فحسب، بل الأسمى من ذلك كله هو فهم الحاضر ورسم خطة واضحة المعالم عقليا وفكريا لتحقيق نهضة شاملة لكل المجالات والتي غابت في عصرنا هذا ، فقد كان يرى أن نقد العقل هو اللبنة الأولى لكل مشروع يخص نهضة الأمة ، فالنقد الذي كان يدعو إليه ليس نقدا من أجل النقد ، بل هو نقد من أجل التحرر والتنوير والنهضة، وهذا كله يستند إلى عقل متحرر له بُعد نظر ودقة تحليل ونظرة متبصرة للحاضر والمستقبل ،لا التقوقع في الماضي فقط وانتظار تحقيق النهضة ، بل يلزم إعمال العقل لنقد العقل المتسلط والنرجسي.


الكاتب : علي بوشنتوف

  

بتاريخ : 09/05/2023