الهدر المدرسي.. ذلك النزيف الموجع!

في خضم الانشغال الحصري ببعض المشاكل التي ما انفكت المدرسة العمومية تتخبط في أوحالها منذ سنوات طويلة، دون أن يجدي نفعا في اجتراح حلول ملائمة لها ذلك الزخم من الإصلاحات والمخططات، التي استنزفت الكثير من الجهد والميزانيات الضخمة من أموال الشعب. كدنا ننسى أن هناك مواضيع أخرى لا تقل أهمية، لما لها من انعكاسات سلبية على الفرد والمجتمع، وتشكله من قلق مستمر، حيث أنه قلما يسلط عليها الضوء بالقدر الكافي ولا تحظى بما يلزم من اهتمام، كما يحدث مثلا بالنسبة للاكتظاظ بالفصول الدراسية والساعات الإضافية وضعف البنيات التحتية وقلة المواد البشرية، ونخص بالذكر هنا موضوع الهدر المدرسي.
ولعل من أبرز الدوافع الأساسية التي جعلتني أتناول اليوم ظاهرة الهدر المدرسي ولو بشكل جد مقتضب، هو ما أوردته إحدى الجرائد الإلكترونية خلال الأسبوع الأخير من شهر نونبر 2021، حيث أفاد الخبر بأن أجهزة الدرك الملكي قامت في عدة عمالات وأقاليم بالعالم القروي بحملة واسعة من أجل إقناع آباء وأولياء التلاميذ المنقطعين عن الدراسة بالعودة إلى مدارسهم، وأن جهودهم أثمرت نتائج جيدة ومشجعة، واستطاعت الحملة إعادة الكثير من التلاميذ القاصرين ذكورا وإناثا إلى مقاعدهم الدراسية.
ذلك أن مؤشرات الهدر المدرسي في تزايد مقلق، رغم أن الوزارة الوصية لم تفتأ تبذل جهودا متواصلة في محاولة التقليص من الظاهرة، سواء على مستوى التنسيق الوثيق مع المجلس الأعلى للتعليم والجمعية المغربية لدعم التمدرس ببلورة تجربة رائدة منذ شتنبر 2008، عبر برنامج «تيسير» للتحويلات المالية لفائدة التلاميذ المعوزين في سلكي الابتدائي والإعدادي بالعالم القروي وكذا في العالم الحضري بالنسبة لسلك الإعدادي، أو على مستوى إنشاء مدارس جماعاتية وتجميع وحدات مدرسية أو على مستوى توفير النقل المدرسي والإطعام، مما أدى إلى ارتفاع نفقات الدعم الاجتماعي إلى ما يعادل 68 في المائة من ميزانية الاستغلال بجميع الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين. فضلا عن أنه سعيا منها إلى محاولة تحقيق العدالة المجالية، سارعت إلى وضع برنامج عمل يمتد لثلاث سنوات متوالية ما بين 2021 و2023، يتضمن عدة إجراءات وعمليات حسب كل مشروع على حدة، من خلال مخطط واضح وطموح لبناء 104 مدراس جماعاتية و103 داخلية موزعة على النحو التالي: 45 مدرسة و26 داخلية برسم سنة 2021، 30 مدرسة و36 داخلية في سنة 2022 و29 مدرسة و41 داخلية خلال سنة 2023.
وكما سبق لوزير التربية الوطنية السابق سعيد أمزازي أن صرح بكون الموسم الدراسي 2019/2020 عرف انقطاع 304 آلاف و545 تلميذا وتلميذة عن الدراسة من بينهم 160 ألفا و837 في التعليم الإعدادي وحده، فإن المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، كشف بدوره في تقرير له برسم سنة 2019 عن أرقام صادمة وفق معطيات إحصائية رسمية، تفيد أن 431 ألفا و876 تلميذا وتلميذة غادروا أسوار المدرسة في سلكي التعليم الابتدائي والإعدادي قبل حصولهم على الشهادة في الفترة الممتدة ما بين 2014 و2018، حيث تراوحت نسبة الهدر المدرسي ما بين 5,09 و7,86 حسب ترتيب الأكاديميات الجهوية. ويؤكد ذات التقرير أنه تم تسجيل انقطاع 508 آلاف و300 تلميذ وتلميذة سنة 2015، أي ما يعادل نسبة 8,8 في المائة، وبحلول2017/2018 تزايدت حدة الهدر المدرسي، ليبلغ مجموع المغادرين لفصول الدراسة 431 ألفا و876 تلميذا وتلميذة منهم حوالي 126 ألفا في التعليم الابتدائي بنسبة وصلت إلى7,4 في المائة من مجموع المتمدرسين المسجلين بمنظومة مسار…
والهدر المدرسي من المصطلحات الواسعة التي يصعب تحديدها، حيث يمكن أن يعني التسرب الذي يجعل المتعلم يغادر أسوار المدرسة دون استكمال دراسته، ويمكن أيضا أن يطلق عليه الفشل الدراسي المرتبط في الغالب بالتعثر الدراسي أو التخلف الدراسي أو عدم القدرة على التكيف التربوي. غير أن السائد لدى الكثيرين هو الانقطاع عن الدراسة في مرحلة معينة، وهي الآفة التي أصبحت تفرض نفسها على القائمين على الشأن التربوي وتقض مضاجعهم، لما تشتمل عليه من مقومات الفشل على مستوى الفرد والأسرة والمدرسة والمجتمع، وتنعكس سلبا على تطور المنظومة التربوية، لاسيما في العالم القروي والأحياء الهامشية، وتساهم في استنزاف صارخ للموارد المالية والبشرية…
فالانقطاع عن الدراسة من أكبر المعضلات التربوية التي تحول دون الارتقاء بمنظومتنا التعليمية، بفعل ما لها من آثار وخيمة على المجتمع، من حيث ارتفاع معدلات الأمية والبطالة والجريمة بمختلف أشكالها. ومن الصعب جدا تحديد دواعي تفاقمه خارج إطار الفقر والتفكك الأسري وعدم الاستقرار النفسي وانسداد آفاق المستقبل، حيث يتداخل ما هو ذاتي مع ما هو اجتماعي وما هو اقتصادي مع ما هو تربوي…ولا ننكر ما اتخذ من إجراءات تستهدف تطويق الآفة، عبر توسيع دائرة برامج التدخل كـ: «تيسير» ومحاربة الأمية ومدرسة الفرصة الثانية والدعم التربوي والاجتماعي وتأهيل المؤسسات التعليمية ومشروع مليون محفظة… لكن ذلك لم يسعف في إيقاف النزيف الموجع والمفجع.
إن مواجهة الهدر المدرسي والتقليص من حدته، يقتضيان إرادة سياسية قوية وتعبئة وانخراط جميع الفاعلين من حكومة ومنتخبين ومجتمع مدني ووسائل إعلام وغيرها، واعتماد مقاربة جديدة على المستوى السيكولوجي والاقتصادي والاجتماعي، فضلا عن مراجعة المناهج الدراسية، تفعيل دور المدرسة والاهتمام بفضاءاتها وتحسين خدماتها، حتى تكون ذات جودة وجاذبية.


الكاتب : إسماعيل الحلوتي

  

بتاريخ : 20/01/2022