بروفيل جيل : أحمد المديني وخمسون عاما من الأدب المغربي

في اللقاء الاحتفائي بالكاتب المغربي أحمد المديني في المكتبة الوطنية بالربط يوم 29 / 10 / 2021 بمناسبة صدور الطبعة الجديدة من مجموعته القصصية « العنف في الدماغ» في الذكرى الخمسينية لصدورها ، أحسستُ بدبيب خشوع وهيبة ، وأنا محفوف في منصة اللقاء بوجوه وأسماء أثرية مضيئة من مغرب السبعينيات والثمانينيات الملحمي، أحمد المديني ، عبد القادر الشاوي، محمد الأشعري، إبراهيم الخطيب، ووجوه سبعينية مُخضرمة حاضرة في هذه اللمّة الأدبية الإحيائية . وجوه تعبُر بنا من زمن مغربي رمادي سلس القياد يخفض جناح الذل، إلى زمن مغربي حار وحرُون منذور للمواجهات والتحديات .
وعلى إيقاع ذاك الزمن الساخن، كان الأدب المغربي يعيش «عنفه في الدماغ «، حسب الشفرة لإبداعية المرحلية لرفيق المرحلة وفارسها المغوار أحمد المديني .
وقد جدّت واشتدّت بلا شك وقائع ورجّات ومتغيرات، منذ أن سكن «صهيل الخيل الجريحة « حسب الشفرة الاستعارية للشاعر والروائي محمد الأشعري. وتمخّض اليسار المغربي وهو مَعقد الآمال، عن « تجربة الحلم والغبار « حسب الشفرة الاستعارية الأخرى لشاهد المرحلة عبد القادر الشاوي، أو توفيق الشاهد في رواية أخرى .
وعلى الرغم من تحوّل الأحوال ومُخاتلات المآل، فقد شهد الأدب المغربي على امتداد العقود الخمسة الماضية، ربيعا إبداعيا وارفا وموصولا، حيث اغتنت وربَت الأسماء والإصدارات عددا ومَددا ، وتقاطعت الحساسيات والرؤى واللغات. ودخلت وسائط التواصل على الخط ، فشرّق الأدب المغربي وغرّب ، وصال وجال على سجيته وهواه ، في حرية رخيّة كان دونها خرطُ القتاد في الأزمنة الماضية.
ومن ثمّ تبقى مرحلة السبعينيات والثمانينيات من القرن الفارط وبمعزل من أية نوستالجيا ، محطة أدبية وتاريخية مضيئة لا ينكسف وهجها .
وأحسب أن جيل السبعينيات يكاد يكون محطة فارقة وساخنة في سردية الأدب المغربي الحديث ، علىغرار أجيال كانت لها بصماتها وتواقيعها .
وأفكر هنا تمثيلا مع احتساب الفارق ، في جيل 27 في إسبانيا، وجيل النكبة العربي 1948 ، وجيل الستينيات في مصر بعد هزيمة 1967 .. حتى لا نذهب بعيدا في التاريخ .
وبالمناسبة ، فمعظم أفراد جيل السبعينيات من مواليد عام النكبة وما جاورها ، وعاشوا دُوار هزيمة 1967 حتى النخاع. . فهم « جيل القدر « حسب رواية رائدة لمطاع صفدي .الروائي والكاتب السوريالراحل . وليس في قولي هذا أية نرجسية جيلية ، أو طللية جيلية .
وإن كان الزمن العربي برمّته في ألفيته الثالثة ، قد استدار إلى زمنه الطللي – الجاهلي .
قد لا تنظر الأجيال الجديدة إلى أدب الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الفارط بعين الرضا،فتحيل جزءا كبيرا منه على الرفّ . معتبرة إياه من كلاسيكيات الأدب المغربي . او كما يروج عادة ، من مخلفات زمن الإيديولوجيا والالتزام .
ولعل عبارة (القرن الفارط) في حدّ ذاتها، مستفزة ومنفّرة للأجيال الجديدة . وهنا مربط الإشكال بين جدلية الأجيال . هنا تلتبس مفاهيم الزمن الأدبي، ومعايير الحداثة الأدبية ، حين يتسلل مكْر التاريخ لخلط الأوراق والمفاهيم والقيم .
وأعتقد ببساطة وصراحة أن ما ينقص أدبنا اليوم ، هوشيء من ملح الإيديولوجيا والالتزام .
وكي نتخفّف من الحمولة التاريخية لهاتين الكلمتين ، نقول إن ما ينقص أدبنا اليوم، هي البوصلة الفكرية «المقاصدية « الموجّهة لخريطة الكتابة.
ونستحضر هنا مجدّدا ووصْلا لليوم بالأمس، أسئلة سارتر الشهيرة / ما الكتابة ، لماذا نكتب، ولمن نكتب ؟
هذه الأسئلة الجوهرية فيما يبدو، غير واردة أو غير معنية لدى كثير من كُتّاب الوقت .علما بأن هذا الوقت حصرا وتحديدا، أكثر استدعاء لهذه الأسئلة .
وما تُرانا نعيد من هُمومنا، إلا مكرورا .
إن أدباء السبعينيات والثمانينيات المُخضرمين، عابرون للأجيال الأدبية صامدون ومرابطون ومتجدّدون في سُوح الكتابة والإبداع والممارسة الثقافية ، ما وَهنوا أو تراخوْا وإن وهَن العظم واشتعل الرأس .
بل إن رموزا منهم ما زالت في الصفوف الأمامية من المشهد الأدبي المغربي .
وليس ثمة قطائع في السيرورات الأدبية . والادب لا يجبّ بعضُه بعضا.
وقد أصاب كاتبنا الكبير أحمد المديني وسدّد ، حين بادر إلى عقد هذه اللمّة الأدبية احتفاء بخمسين عاما من الأدب المغربي ، من (العنف في الدماغ ) 1971 إلى (رجال الدار البيضاء ) 2021 .
وهو الاحتفاء الذي يُتوّج بصدور الطبعة الجديدة من مجموعة ( العنف في الدماغ ) مشفوعة بقراءات جديدة .
احتفاء رمزي جميل بالأدب المغربي الحديث من خلال أحد رموزه المخضرمة الفاعلة, ولست مبالغا إذا قلت بان ( العنف في الدماغ ) كانت بمثابة بيان ثوري مبكر ( مانيفيست ) للحداثة القصصية المغربية، سواء في نهجها القصصي الخارج عن العروض القصصي، أو في مقدمتها النظرية الضافية ( 13 صفحة ) التي تطرح تصورا حداثيا مبكرا للحداثة القصصية . وهي مقدمة تاريخية بامتياز .
وهاجس التجديد والتحديث واختراق الأزمنة ، هو الذي سيلازم المديني عبر مساره الأدبي الطويل ، كفينيق متجدد باستمرار، عابر للأجيال منخرط في غمار الأدب المغربي.
من (العنف في الدماغ ) إلى (رجال الدار البيضاء) مسار نصف قرن بالتمام والكمال من الادب ،راكم فيه المديني وحسب التعبير العربي ، حمْل بعير من الكتب ، موزعة بين القصة والرواية والرحلة والدراسة النقدية والترجمة .
كتب أثبتت حضور واستمرارشعلة السبعينيات عبر الأجيال .
ومُبهج ودالّ أن تتجايل وتتجاور أعمالنا الأدبية نحن جيل السبعينيات مع الأعمال الأدبية للأجيال الجديدة المجددة والمواصلة للركب في وئام وانسجام، بعيدا عن حكاية معطف جوجول وحكاية قتل الأب الفرويدية .
إن كل الروافد والمجاري زلالية كانت أم مالحة ، تصب آخر المطاف في أوقيانوس الأدب المغربي .
وخمسون عاما لذلك من تجربة أحمد المديني الأدبية ، هي في الآن ذاته خمسون عاما من الادب المغربي بمختلف أجياله ورموزه ، وحساسياته ومشاربه ، وطموحه وجموحه ، ومدّه وجزره ..
بكل معاناة ومكابدة أدبائه وهم يحفرون بالقلم وما يسطرون ، ليستولدوا أفراحا ثقافية في تربة جرداء ، وسط مجتمع يأكل الطعام ويمشي في الأسواق .
وليواجهوا اليأس والإحباط وكآبة الوقت .
وهذه بالضبط هي رسالة الأدب في زمن تغييب الأدب .
ويهمّني أن أختم هذه الكلمة / العُجالة بمقطع قصصي مقتبس من نص ( العين الثالثة ) من مجموعة (العنف في الدماغ ) ، حيث يعلن السارد على الملأ حقه في الصراخ وبصوت عال:
– ( إني أملك أن أصرخ وأظل أصرخ . إنه عاري أكثر منه قدري . ولا أحد يا بيدباي ( بيددبا الحكيم ) يستطيع منعي من الصراخ . ضعوا الكمامات . ضعوا المقصلات في المصاعد والمنحنيات . والصرخة دوامة . والدوامة جحوظ المسعورين في تجاويف البحار . من يكبت السعار ؟ ) . ص 101 من الأعمال الكاملة لأحمد المديني . وزارة الثقافة . 2012وما أشبه الليلة بالبارحة .
في طلائع السبعينيات من القرن العشرين يصرخ المديني بصوت عال مندّدا بالكِمامات على الأفواه .
وفي عشرينية القرن الحادي والعشرين ، أي بعد نصف قرن كامل من الزمن ، تكتمل المهزلة – الفجيعة ، فتهجم الكمامات طوفانا كاسحا على الأفواه والوجوه .
وما أحوجنا عودا على بدء، في زمن الجائحة وكِمامات كورونا التي أضافت كمامات جديدة إلى كمامات قمعية قديمة .. وجرت رياحها بما يشتهي أصحاب الشوكة والسلطة ، ما أحوجنا في زمن الانهيارات والانكسارات والهرْولات العربية البئيسة ، إلى صرخات وصيحات أحمد المديني السارية
المفعول والصلاحية ، إلى إشعار آخر .
ما أحوجنا حقا ، إلى عنف في الدماغ جديد ، مُنقّح ومزيد .


الكاتب : نجيب العوفي

  

بتاريخ : 12/11/2021