بشير القمري: المثقف المتعدّد

عندما أكتب عن علَم من أعلام الثقافة المغربية، يكون الدّاعي أخلاقيا ومعرفيا، خصوصا في غياب ثقافة الاعتراف من الساحة الثقافية، الأمر الذي يثير الكثير من الأسئلة المقلقة والمحيّرة،المضنية والحارقة، فالإجحاف غدا سُنّة سارية الأثر في المشهد الثقافي، ووسيلة من وسائل النسيان لأعلام المغرب الذين قدّموا الكثير للثقافة المغربية. كل هذا يعكس الوضع المزري والكارثي الذي تتخبط فيه هذه الثقافة جرّاء التهميش واللامبالاة. فالثقافة لا يفكّر فيها ولا تشكّل هاجسا للدّولة، مما يفضي إلى الإقامة خارج التاريخ والحضارة، لأن المجتمع الذي لايقدّر قيمة الرأسمال الرمزي وأهميته في حياة الأمم، واعتبارها العمود الفقري لأي مشروع تنموي وطريقا نحو التقدّم والرقي الحضاريين، مصيره السقوط في فخّ التخلّف والعجز عن مواكبة التحولات التاريخية والحضارية.
هذه الدوافع المذكورة تشكّل، بالنسبة لي، الدافع الرئيسيّ للكتابة كلّما رحل، عن دنيانا، فاعل ثقافي، متسابقا مع الزمن ومتجاوزا كل المثبطات الذاتية والموضوعية، بهدف إعادة النظر في المنجز الذي خلّفه الرّاحل مُبْحرا في أتونه لاستكشاف ما يزخر به من إضافات غير مُلتَفت إليها .
من هذا المعطى فإن الحديث عن بشير القمري وما خلّفه من نتاج إبداعي ونقدي يبقى عبارة عن إطلالة طائر لانتقاء ما ينفع ويسهم في إضاءة حياة هذا الرجل ثقافيا ونقديا، ذلك أن العودة إلى المنجز هي عودة للوقوف على أهم الانشغالات التي نذر بشير القمري وجوده وحياته للاشتغال عليها، ساعيا من ورائها إلى تطوير وتثوير الممارسة الثقافية بالمغرب؛ لتحتل المكانة التي تليق بها في الحضارة العربية والإنسانية. ومن تمّ نسوّغ لأنفسنا التطرّق إلى أمر في غاية الأهمية بالنسبة لي شخصيا، يتمثل في معرفتي الأولى بالبشير القمري. فقد شاءت سيرورة الحياة أن ألتقي به في مدينة شفشاون بمناسبة المهرجان الوطني للشعر الذي تنظمه جمعية أصدقاء المعتمد بن عباد، والذي كان محفلا شعريا ونقديا يجمع خيرة الشعراء والنقاد المغاربة للتّداول في الشعر المغربي المعاصر، وذلك سنة 1998، حيث جمعتني معه مائدة الغذاء في أحد المطاعم بشفشاون فدار بيني وبينه جدال حادّ حول الشّعر المغربي وبعض القضايا الثقافية، وصراحة وجدت فيه المثقف الذي يحترم الاختلاف، ويدافع عن وجهة نظره بكل جرأة وتصور عميقين يبيّنان أن الرجل محيط بالمشهد الثقافي إبداعا ونقدا، وبإبدالاته ومنعطفاته الحادّة، كما أنه يوثر الإنصات كثيرا بدَل الكلام، وهذه خصلة من خصال الكبار، إضافة إلى التّواضع الذي يتصف به رغم حدّة نقاشاته، التي تبدو للآخر غير مستوعبة ومقبولة، لكن معاشرة بشير القمري ومصاحبته تذيب جبال الثلوج التي يضعها بعض مثقفينا في ما بينهم، وتكررت اللقاءات خصوصا في مدينة بني ملال، من خلال الأنشطة التي كان ينظمها اتحاد كتاب المغرب ومديرية الثقافة. ولابد من التأكيد على أن الرجل يمتلك رؤية عميقة للفعل الثقافي بعيدا عن الشوفينية الضّيّقة التي كانت سائدة في الساحة الثقافية بالمغرب، بل يمكن اعتباره من خيرة الأطر الثقافية التي لعبت أدوارا في تنشيط الحياة الثقافية بواسطة الإسهام الفعلي و الحضور الفعّال والوازن في الملتقيات والندوات والمؤسسات الثقافية كاتحاد كتاب المغرب والجامعة المغربية، وهذا يزكّي قيمته التي نفتقدها اليوم،بفعل احتلال أشباه المثقفين والنقدة الصفوف الأمامية بعد انسحاب غالبية الفاعلين الثقافيين الذين أبلوا البلاء الحسن في ترسيخ ممارسة ثقافية حداثية عقلانية. وأثروا المجال الثقافي بمنجزاتهم العميقة وتصوراتهم المنبنية على معرفة أصيلة وثقافة مترامية الينابيع.
ويعتبر بشير القمري من أبرز الأكاديميين، بعد جيل محمد برادة وأحمد اليابوري وأحمد المجاطي وإدريس الناقوري ومحمد مفتاح ومحمد السرغيني ونجيب العوفي وغيرهم ، الذين واصلوا تحديث الدرس النقدي في الجامعة المغربية، والعمل على تجذير فكر حداثي ينتصر للعقل النقدي، ولا غرابة في هذا فالراحل تشبّع بهذا الفكر في المدرسة الاتحادية وأسرته المثقفة، فكان لهذا السياق أثره وتأثيره في تشكيل شخصيته. والمتتبع لمساره الثقافي يقف عند حقيقة أساسية تكمن في هذا الغنى المتنوع من حيث الروافد والينابيع المعرفية والفكرية التي نهل منها، وتركت بصمة في بناء شخصية مثقفة مؤمنة بالاختلاف وكافرة بالمطابقة، ومتشبّعة بالقيم الإنسانية دون التقوقع في الزوايا الضيّقة، والتفكير المتعالي عن الواقع. وانخراطه في النضال ضد الظلم والتسلّط والاستعمارات دفاعا عن حق الشعوب في الاستقلال والتخلّص من التبعية كيفما كانت صفاتها ونعوتها وأوصافها وجنسياتها وانتماءاتها، والانتصار لقضايا الإنسان المقهور في كل بقاع العالَم يبرز أن البشير القمري كان مثقفا عضويا منصتا لهموم الواقع ومنشغلا بالقضايا الإنسانية، وما مشاركاته في المسيرات والتظاهرات والندوات المتعلقة بهذه القضايا إلا دليل على امتلاكه للوعي الشقي الذي يشكّل بوصله تفكيره، ومنطلقه في مقاربة القضايا والأفكار الرائجة في الواقع والعالَم.
وما ميّز حياته الأدبية أنها حافلة بالعطاء والبَذْل، والانغماس الكلّي مع مشاريعه الإبداعية التي بَصَمَها بسمات حداثية، إذ يعتبر من الأسماء القصصية القليلة التي جدّدت وأبدعت في مضمار القصة القصيرة، خالقة النص القصصي المختلف مع المنجز القصصي الكلاسيكي والمتجاوز لبناه السردية، بإبداع نص قصصي يستجيب للتحولات والإبدالات الناتجة عن سياقات تاريخية وحضارية، اجتماعية وثقافية لم يعد النمط التقليدي قادرا على احتواء نداء الواقع ومتغيراته. فكان بشير القمري مجدّداً وناسجا خطابا قصصيا سمتُه تكسير البنية القصصية ذات القالب التقليدي ببناء شكل قصصي يحقق شعريته من بناء جمالي فنّي مفارق ومخالف.
هذه الروافد الغربية قد أغنت تجربته في الممارسة النقدية، وثوّرت رؤيته في الكتابة والنقد، فيبدو من منجزه الإبداعي والنقدي أنّ مرجعياته المعرفية تنهل من معين الحداثة الغربية التي تتجاوز البنى التقليدية في الكتابة السردية. ولعل مجموعته القصصية «المحارب وبالأسلحة» ونصه الروائي « سر البهلوان» ومسرحياته تؤكّد ما ذهبنا إليه،من كون بشير القمري من أنصار التجديد والتحديث وتكسير الأنماط الكلاسيكية. ودون أن نغفل إسهامه النقدي المتميز والذي يعكسه منجزه المتمثل في « التحليل الدراماتورجي للنص» و» شعرية النص الروائي « و»مجازات: دراسات في الإبداع العربي المعاصر « نقف على أن خلفياته النقدية مستقاة من النقد الحديث وتحديدا النقد البنيوي مع رولان بارت وتزفيطان تودوروف وجيرار جنيت وفيليب هامون وجوليا كريستيفا، هذه المتعاليات النقدية أكسبت بشير القمري الصرامة المنهجية والقدرة على تحليل النصوص والمتون التي كانت مجالا لتجريب النقد البنيوي، والدّقة في ضبط المفاهيم والمصطلحات مما أعطى لأعماله النقدية مكانتها وجدارتها في الممارسة النقدية المغربية والعربية.
إن التنوع الثقافي للناقد بشير القمري أضفى على كتاباته، سواء الإبداعية أو النقدية ،سمة العمق في الرؤى والتصورات التي تشكّل خلفية معرفية بالنسبة له. وكشف عن معدنه النادر والاستثنائي في الممارسة النقدية التي تُميّز الراحل، وتجعله من النقاد الذين لا يستسهلون الكتابة النقدية،بقدر ما يكدّون ويجتهدون من أجل إسباغها بالمصداقية والموضوعية، ولعلّ منجزه النقدي يرسّخ هذه القناعة التي خلصنا إليها، من خلال المواكبة والمتابعة والقراءة المتأنية والمتفحصة له، الأمر الذي يجعلنا أكثر إيمانا بما خلّفه الرّاحل من متن نقدي بوّأه المكانة اللائقة بناقد وأكاديمي تمكّن من ضخّ دماء التجديد والابتكار والإضافات في شرايين النقد العربي. ولابد من التأكيد على أن بشير القمري لم يكن يهادن أحدا، فآراؤه كانت تحرج الكثير من النقاد والمبدعين، لكونها تنطلق من زاوية نظر تنظر إلى النص لا إلى صاحبه، برؤية متبصرّة ومتعمّقة فيه، وتثير وراءه الكثير من النقاشات في التداول الثقافي المغربي خصوصا. ولا غرو في ذلك مادام نقده يتصف برجاحة الرأي الناجمة عن تضلعه في مجاله النقدي.
وما يسجل لبشير القمري كونه من المثقفين العضويين والملتزمين بأسئلة المجتمع بصفة عامة وبالسؤال الثقافي بخاصة، إذ ظل مواكبا ومنخرطا في أتون هذا السؤال حارثا أرضه، مُقلّبا تربته، مناوشا غير مهادن، مثيرا لإشكالات متعلّقة بالممارسة الثقافية، وكاشفا عمّا يعتورها من اختلالات وعوائق تحول دون ترسيخها في بنية المجتمع، بل إنه التزم بالقضايا الكبرى التي تهمّ الإنسان العربي، التزاما عميقا، وأصيلا يعبّر عن انتماء بشير القمري إلى صوت الإنسان ونداء الإنسانية.
إن درس بشير القمري يمنحنا القدرة على إعادة النظر في دور المثقف داخل المجتمع، والتفكير مليّا في تجديد النقد الأدبي وفق آليات نقدية جديدة، وإثراء الإبداع العربي بإضافات جديدة، ويدعونا إلى اجتراح أفق آخر يناشد المستقبل بعد استيعاب الماضي والانخراط في الحاضر سياسيا واجتماعيا وثقافيا، لأن بناء الإنسان منطلقه الثقافة كقاطرة من قاطرات التنمية والتمدن والتّقدّم، وفي غياب الفعل الثقافي يكون المجتمع في سبات تاريخي وحضاري، وخارج الأسئلة، دون إهمال الجوانب الأخرى التي تؤدي الدور نفسه في هذا السياق. كما أن حياة المجتمعات كامنة في حيوية مثقفيها ومساهمتهم في تفعيل دورة التفكير والانخراط الفعلي في صيرورتها وإشكالاتها.
إن الحاجة، في هذه اللحظة التاريخية والحضارية، رغم ما تتعرض له البشرية من تسليع ومحو الذاكرة والسقوط في فخ عولمة غير رحيمة ومجحفة، والانهمام بالتّافه والضّحل، والابتعاد عن المهم والعمق، فإن مهمة المثقف تتجلى في قدرته على استعادة دوره بفعالية أكثر، وبالحضور الدائم في معمعان القضايا التي تهم الإنسان والمجتمع، حتى يكون تأثيره واضحا وجليّا في السلوك الإنساني. وهذا ما يفضي إلى خلق مجتمع منتج غير مستهلك، يمتلك التفكير الجدلي الذي بوساطته تتحقق أحلام وآمال الأمم. وبدون نقد أو إبداع ينتفي التفكير ومن تمّ يغيب الإنسان.
فبشير القمري منارة ثقافية تضيء لنا ما ادلهم من ظلام يسود المجتمع والعالَم، وتحفّزنا على ارتياد المغامرة متسلّحين بمرجعيات معرفية ذات جدوى ومصداقية، وبرغبة عميقة من أجل تقديم كل ما من شأنه أن ينفع الناس ويؤثّر فيهم، ويجعلهم أكثر حداثة وينير طريقهم نحو المستقبل، ويمكن اعتباره أيضا مرجعا أساسا لتأريخ حداثة المجتمع المغربي، والإبداع المغربي، ولا ضير في ذلك مادام الرجل من خيرة المثقفين والنقاد الذين أبلوا البلاء الجيّد في الدفاع عن مشروع المجتمع الحداثي الذي لايفرّط في الثوابت والهوية والأصالة بقدر من يبذر فيها بذور التحديث والتفكير، بعيدا عن الاجترار الأعمى الذي يقود المجتمعات إلى هاوية التكلّس والتخلف والجمود.

* شاعر من المغرب


الكاتب : صالح لبريني *

  

بتاريخ : 09/07/2021

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *