تقريع التقنية.. محاولة للقبض على تلابيب العصر الجديد

 

إن كل اعتقاد بأن التقنية محايدة، لن يكون سوى قول ممجوج وبدون قيمة. فالتقنية منحازة دوما. التقنية وجدت للتأثير وترك الأثر. هذا ما أقره على الأقل هربرت ماركيوز الذي انتقد الموقف القائل بحيادها. فصحيح أن الآلة الحاسبة مثلا قد تستعمل بنفس الطريقة، ولنفس الغرض في المجتمع الرأسمالي، مثلما في المجتمع الاشتراكي أيضا. والسيكلوترون، وهي أداة لكسر نواة الذرة، تستعمل في زمن السلم و أيضا في زمن الحرب، لكن هذا لا يمنع من القول من أن تطور التقنية قد خلق أشكالا جديدة للاستعباد والغطرسةً. وهو هنا، أي ماركيوز، سيستشهد بمقولة تاريخية للفيلسوف الشهير كارل ماركس:”الطاحونة الهوائية تفرز مجتمعا إقطاعيا، والطاحونة البخارية تفرز مجتمعا رأسماليا مصنعا”. وهذا يعني أن التقنية لم تكن محايدة أبدا. فالنظام الإقطاعي شهد استعبادا للأقنان، والنظام الرأسمالي خلق عبيدا جددا لا يملكون سوى قوة سواعدهم. وهم يبيعون جهدهم وعرقهم مقابل الخبز والاقتيات، مما يحولهم إلى كائنات لا تختلف عن كل الكائنات الأخرى التي تتغذى، تنمو، وتندثر،أي تموت. وهي هنا تتساوى مع النباتات التي تسقط عليها أيضا الأفعال السالفة الذكر. لذلك فكل المقولات التي ذهبت إلى أن التقنية ستحرر الإنسان، أصبحت مجرد أضغاث أحلام.
لقد وجدت التقنية كدليل على عجز الإنسان، وذلك بعد أن استنتج في لحظة عجز وبؤس بأن الطبيعة أصبحت تماطل تطلعاته وتتراجع عن إرضاء أنانيته وصلفه. هكذا فإنه قد انقذف إلى لجة بحر التقنية. انقذف بدون أمل في العودة إلى الوراء. انقذف وهو لا يدرك أن لا مجال للنجاة من براثن العدو الذي سيضعه في فمه كلقمة سائغة. انقذف إلى غياهب التقنية غير مأمونة الجانب.
وإذا كان جان جاك روسو سيعتبر بأن الإنسان لجأ إلى التقنية حينما لم تعد الطبيعة تقدم له ما يصبو إليه، وخاصة بعد أن تكاثر العنصر البشري، وهو ما أقره أيضا في ما بعد ميشيل فوكو. وهذا ما سيجعلنا نستنتج بأنها أنقذت ماء وجه الإنسانية مانحة إياها فرصة أن تتبوأ مكانة القوي، وتجعل عودها يشتد أكثر، فهي من جهة أخرى خلقت هشاشة في الوجود الإنساني ليس لها مثيل. كما أنها خلقت هوة واسعة بين الدول الغنية والدول الفقيرة على حد تعبير إريك فروم. فإذا كانت هناك دول قد تقدمت، فهناك دول أخرى قد تأخرت بشكل لافت. كما أننا ككائنات إنسانية تحولنا إلى مجرد مسامير في الآلة البيروقراطية. والكلام هنا مازال لإريك فروم، والذي اعتبر بأن العصر الآلي قد حول الكائنات الإنسانية إلى عبيد للآلات، مثلما لم يف بوعوده المتمثلة في خلق الرفاهية . فكل الرهانات التي وضعت عليه لم تتحقق. كما أن تحقيق المزيد من الحاجات لا يحقق السعادة أبدا، بل لا يشبع حتى تلك الحاجات نفسها، بل يغذي فقط إحساسا عملاقا بالمرارة. كما يغذي شعورا بالإحباط، وهو شعور لا يتوقف عن النمو. ونحن نلاحظ جيوش الاكتئاب تحاصر الإنسان المعاصر من كل جهة وصوب.
وإذا كان إريك فروم قد اعتبر بأن التقنية هي مجرد آلة بيروقراطية أخرى، فإن المفكر الفرنسي ميشيل سير سيعتبر بأن هذه التقنية هي سلطة كُلِّيانية، أي أنها انقلبت إلى ديكتاتور جديد ومعاصر دمر الطبيعة وهشَّم طموحات الإنسانية، وهو ما يؤسس للعنف الموضوعي للعلم كاستراتيجية مهددة على حد تعبيره.
لقد حوَّلت التقنية الطبيعة إلى مجموعة من العظام المقعقعة مثلما قال المفكر الإنجليزي برتراند راسل. هذا يعني أنها فقدت بريقها وعنفوانها. لقد أصبحت مثل المرآة المهشمة، لا تكاد تصلح لشيء. أما الإنسان الذي اعتقد بأنه قد تخلص من الخوف، فقد عاد إليه. وكان هذا الخوف هاته المرة مؤلما إلى حد المرض. هذا يعني أن هذا الخوف أصبح حالة مرضية. كما أن الإنسان الذي اعتقد بأنه قد تخلص من العبودية، بحيث أصبح سيدا على الطبيعة، هاهو يعاني من نير عبودية جديدة أكثر غطرسة، بحيث تحول إلى مجرد حشرة صغيرة مرتعبة وبائسة في قعر الكون. لقد سيطر خوف معاصر الآن. خوف يتجول في كل مكان. خوف شبيه بكائن أسطوري جبار لا يختلف عن خميرات وقنطورات سقراط. إنه خوف على الطبيعة التي لم تعد بخير. خوف على هاته الفضاءات التي أصبحت تضيق بوجودنا. فالأرض تعبت فعلا. لقد تعبت من وطأة مرتاديها الذين حولوها إلى سرير متهالك مخلع الأضلاع يئنُّ مع كل خطوة تخطوها الإنسانية. فالأرض قد شاخت فعلا، وأمراضها تكاثرت وسقطاتها تعددت، بحيث تحولت إلى مجرد طفل يحبو وسط غابة كبيرة.
إن الخوف على الطبيعة الذي تسببت فيه التقنية ليس خوفا محليا فحسب، لذلك فهو يختلف عن كل أشكال الخوف القديمة ذات الطابع المحلي.
لقد أصبح خوف الإنسان كونيا على حد تعبير المفكر ميشيل سير. فقديما كان يخاف الإنسان من ظواهر طبيعية كالبراكين والزلازل، أو حتى الجفاف مثلا . وهي ظواهر محلية تتم في مكان ما، بالشكل الذي لا يضمن أنها ستتم في كل بقاع الأرض، أما ثقب الأوزون فهو خطر يتربص بالإنسانية جمعاء في كل مكان.
إن التقنية المعاصرة وهي تتغلغل في كيان الوجود الإنساني لم تترك لنا حتى فرصة أن نطرح السؤال التاريخي الذي أصبح مبتذلا الآن: هل يمكن لنا أن نتخلى عن التقنية؟ هل ستستقيم حيواتنا بدونها؟
لقد أجاب جلبير هوتوا على هذا السؤال بشكل ما. فقد اعتبر بأن التقنية تنمو بشكل ذاتي خارح توقعات الإنسانية. إنها تكبر مثل فيروس لعين لا يمكن أن نشبهه إلا بهذا الكوفيد المختال. لذلك فالكائنات الإنسانية ليست سوى منفذ لهذا الأمر التقني الضروري، على حد تعبيره. كما أن كل اعتقاد بأن التقنية هي وسائل موضوعة لخدمة الإنسانية هو مجرد قول واهم وأسطوري مثلما يزعم جلبير هوتوا. هذا يعني أن التقنية انتصرت اتتصارا مدويا على الإنسان. لقد خلخلت اعتقاداته وحطمت سكينته.
ألم يكن هوتوا متشائما كثيرا؟ ألا يتماهى قوله هذا مع ما قاله أحد المتشائمين الكبار عبر تاريخ الإنسانية، وهو آرثر شوبنهاور، والذى سيختصر الإحساسات التي تنتاب الإنسان طيلة حياته إلى إحساسين إثنين هما: الألم والملل؟ هل فعلا الإنسان أصبح مجرد مسمار في هاته الآلة البيروقراطية الضخمة؟ كيف يمكن للإنسان أن يتحول إلى مجرد منفذ لأوامر التقنية؟ وهل يمكن أن نعيش الآن بدون هواتف ذكية مثلا؟ ألا نكون عرضة للوثة جنون وقلق كلما أصاب هواتفنا عطب ما، أو أصبحت بعيدة عن متناول اليد، أو فقط حينما تختفي داخل ثنايا كنبة مثلما يذوب فص ملح في كأس ماء؟ ألم تسمح هاته الهواتف بفتح فضاءات أرحب للتواصل أمام الكائنات الإنسانية ؟هل لا يزال للصداقة معنى الفضيلة مثلما ادعى أرسطو؟ ألم تسمح أيضا بمنح الإنسان قنوات جديدة للتثقيف والتعلم؟

مراجع:

– Herbert Marcuse, l’homme unidimensionnel, éd. de minuit, 1968,pp.169 et suite.
2- جان جاك روسو، “أصل التفوت بين الناس”، ترجمة بولس غانم، اللجنة اللبناتية لترجمة الروائع – بيروت1972، صص:80 – 81 – 82 83
3 – M. Foucault, les mots et les choses, Gallimard, 1996,pp268- 269.
4- إريك فروم،تملك أم كينونة؟ نقلا عن محمد سبيلا وعبد السلام بن عبد العالي، الفلسفة الحديثة – دار الأمان1991ص274-275.
5- ميشيل سير، العقد الطبيعي،فلاماريون1990، ص:58.
6 – برتراند راسلبرتراند راسل، النظرة العلمية، تعريب عثمان نوية، مكتبة الأنجلو المصرية، 1956. ص:251-254.
7- القنطورات كائنات أسطورية ذكرها سقراط في حواراته إلى جانب كائنات أسطورية أخرى هي البيجاسات والخميرات.
8- جلبير هوتوا96، “التقنية -علم ضمن الفلسفة والأخلاقيات، ج:11، أوديل جاكوب 2002، ص:53 -54.
9- Shopenhauer, Le monde comme volonté et comme représentation, (1818),Ed,PUF,p,101 et suite.


الكاتب : مصطفى نفيسي

  

بتاريخ : 27/09/2022