جدلية السوسيولوجيا والفلسفة والتربية في النقد المتعدد 8 -عالم الاجتماع مصطفى محسن: إنماء الفكر التربوي العربي

– كيف تعاملتم مع سؤال نقد التراث وتجديد النظر فيه؟
– إنجاز “قطيعة موازية” أيضا مع كل القراءات والتصورات والفهوم والنماذج التقليدية اللاتاريخية المنتهجة في مقاربة “التراث العربي الإسلامي” سواء في “نصوصه المؤسسة” أو ما أنتج حوله من نصوص وأنماط فهم وتفسير وتأويل… الأمر الذي يستوجب إخضاعه، بشكل علمي عقلاني لا تعسف فيه ولا إسقاط لا مبرر له، لما تقترحه في هذا المجال علوم الإنسان والمجتمع، مثل: السوسيولوجيا والأنتربولوجيا والتاريخ والألسنية الحديثة…وغيرها من مفاهيم ونظريات ومناهج تحليل وبحث مستحدثة متنوعة. وذلك بغرض إعادة بناء جديدة لهذا التراث، تقرأه، على ضوء كل هذه المعارف والمناهج، في زمنيته الذاتية التي انبثق في أحضانها، وفي شروط تحولاته، كما في ظل تاريخيته الراهنة. مما يمكن الباحث/القارئ من فهمه وتملكه إبستمولوجيا وسوسيولوجيا، ومن “الاجتهاد المجدد المتجدد” في عمليات استيعابه والتعامل معه والإفادة منه وفق مقتضيات ومتطلبات العصر بالأساس، وليس دائما بالضرورة وفق معطيات التواريخ الماضية التي أنتجت بعض نماذجه وفهومه ضمن شروط معرفية واجتماعية محددة في الزمان والمكان…
ضمن هه الجهود والاجتهادات المتميزة لهذه المشاريع الفكرية الرائدة، يحاول “منظور النقد المتعدد الأبعاد” أن يتموقع، أهدافا وخلفيات ومضامين ورؤية منهجية منفتحة، وبما هو، كما أسلفنا، “مشروع” ينبذ الفردية والانغلاق، ويرمي إلى الانتماء الحواري التفاعلي إلى دينامية هذه “السيرورة الجماعية المشتركة” من جهود التفكير والبحث وإنتاج الدلالة والمعنى… ولذا فإن ما يمكن أن يلاحظ من تقاطعات أو تشابكات بينه وبين مختلف المشاريع النقدية المذكورة يعد، في تقديرنا وفي إطار رؤيتنا التكاملية المفتوحة، حالة فكرية طبيعية، بل مطلبا علميا وعمليا وحضاريا مرغوبا في مضامينه، وفي مساعيه التي تروم، في المقام الأول، تجديد وتحديث المجتمع العربي فكرا وممارسات سوسيوتاريخية متعددة…
وحتى يكون هذا التموقع المذكور منتجا ذا قيمة مضافة نوعية جديدة، فقد عملت -ولعدة عوامل ذاتية وموضوعية سبقت الإشارة إلى بعضها- على أن أتخذ من قضايا التربية والثقافة والتنمية حقلا للاشتغال والاهتمام، ومن السوسيولوجيا بالأساس زاوية تخصصية للنظر والبحث. ذلك أني قد لاحظت أن الفكر العربي المعاصر ما زال يحتاج في هذا الحقل إلى مزيد من الإضافة والجهد، على الرغم مما قدم فيه حتى الآن من إثراءات قيمة محمودة. إلا أن ذلك، رغم أهميته الوازنة، لم يصل بعد إلى تبلور “فكر تربوي عربي حديث” قائم بذاته: فلسفة ومرجعيات نظرية ومنهجية وإشكالات ومحاور اهتمام وعمل…، وقادر بذلك على دراسة واستيعاب ونقد ما تعرفه نظم التربية والتكوين في مجتمعاتنا من أزمات واختلالات وأعطاب مؤسسية ولامؤسسية مختلفة، مما جعلها، كما أسلفنا، لا تسهم إلا ضمن هوامش ضيقة محدودة في تحقيق استثمار رشيد في “رأسمال الإنسان”، وتأهله بمقومات الاستحقاقية والجودة والجدارة والجدوى، كي يغدو جسر عبور إلى كسب رهانات التنمية الإنسانية والاجتماعية الشاملة. وخاصة في إطار ما تعرفه بلداننا هذه من استشراء لأوضاع رديئة من الفساد والتخلف والاستبداد، مما ساهم في هدر الإمكانات الذاتية والموضوعية المتاحة وفي تعطيل الكثير من خطط ومشاريع وطموحات ومسارات التنمية والتحديث، والانخراط الفاعل في مجمل تحديات ورهانات “الزمن الحاضر” بكل إكراهاته ومطالبه المتعددة…
لذا، حتى حينما كنت أحضر كعضو مشارك في دورات “المؤتمر القومي العربي” كنت أحرص على أن تسير مداخلاتي في نفس المنحى، مقترحا في كثير منها مضاعفة الاهتمام ب “لمسألة التربوية في الوطن العربي” عموما، وبكل أبعادها وديناميكياتها نظرية وممارسة، وبدائل وجهود إصلاح وتجديد، وتضمين ذلك بشكل بارز الحضور، وكمحور أساسي في محتويات التقرير الذي يصدر عقب دورات المؤتمر، والموسوم بـ “حال الأمة”. وقد لاحظت أن نخبة مائزة من مثقفي وساسة وباحثي أعضاء المؤتمر قد شاركتني العديد من هذه الاهتمامات والهموم، معتبرة أن إنماء الفكر التربوي العربي يعد، بالفعل، دعامة مفصلية لتطوير وتحديث الفكر العربي بشكل عام…، بل ولكل مشروع مجتمعي وطني أو قومي، يراد منه أن يكون واضح المرجعيات والمعالم، متكامل العناصر والأهداف وبرامج وخطط التنزيل والتطبيق…
ولا ينبغي أن نغفل، ونحن نحاول موضعة “النقد المتعدد الأبعاد” في إطار المنابع الفكرية التي نهل منها، إضافة إلى النتاجات العربية التي سبقت الإشارة إليها، أهمية أن نستحضر بالتساوق والتفاعل معها أيضا مشاريع وأعمالا فكرية غربية مؤسسة لأجيال الرواد المحثين، مثل: هيجل، وفرويد، وماركس، وسارتر، ولاكان، وألتوسير، وغوديليي، وماركوز، ورودينسون، وبيرك، وإرندت، وسترواوس، وبارث، وغولدمان، ولينهارت، وتودوروف، وكريستيفا، وآرون، وتورين، وتشومسكي، وبنفنيست، وفوكو، ودريدا، ودوبري، وبورديو، وموران، وبودون، وبيرنشتاين…إلخ، وغيرهم كثير. هذا كي لا نورد هنا سوى بعض ما يحضرني في الذاكرة الآن من هذه النماذج، التي كان لها، كما لغيرها بكل تأكيد، الدور المؤثر في تشكيل ما غدا يدعى ب ” الحساسية النقدية الجديدة” بما لها من روافد فلسفية وعقائدية وسوسيوثقافية وسياسية وأدبية وفنية … متعددة الأنماط وأشكال التعبير ومحاور ومجالات الاهتمام، وبكل ما كان لها من الذيوع والانتشار، وتوجيه الكثير من مغامرات التفكير والنقد وتجارب الكتابة والإبداع…
وإذا كنت لا أستطيع الادعاء بأني قد استوعبت وتمثلت كل هذه المرجعيات الفكرية الكبرى،عربية كانت اوغربية، وبجل مقاصدها ومضامينها الغنية المتنوعة، فإني لا يمكن أن أغفل أنها، كما أوضحت سابقا، قد كان لها، بالغ التأثير في تكوين وتوجيه ابناء جيلي وغيره، وفي تبلور ونضوج أنماط وعيهم الفكري والسياسي وممارساتهم الثقافية والاجتماعية المختلفة…مما لا شك في أن محمولاته قد انعكست، بصيغة أو بأخرى وبمقدار أو بآخر، في بعض أعمالي. وذلك حسب ما عالجته فيها، من إشكاليات وقضايا، ومما يبقى مشروطا بانهمامات وهواجس ومواضعات سوسيوثقافية وتاريخية معينة متباينة…
هكذا، إذن، وتأسيسا على كل الحيثيات والاعتبارات الفكرية والاجتماعية المسوقة فيما قبل، فإن اجتهادات ومجهودات “النقد المتعدد الأبعاد” قد راهنت دوما على أن تجد لها مواطئ أقدام في حركية المنظورات النقدية المذكورة وغاياتها الأساسية الكبرى، الرامية إلى تملكها لأهلية الاستحقاق المساهمة في تجديد وتطوير الفكر والمجتمع والتاريخ، وذلك على واجهتين هامتين:
– أولا: على مستوى إعادة البناء النقدي للفكر العربي، وطنيا وقوميا، كي يكون منطلقا لتوليد وعي تربوي وثقافي وسياسي وحضاري جديد مستنير، ينتظر منه أن يشكل الأسس الداعمة والمهد الخصب لانبثاق مجتمع جديد، ومواطنة جديدة، ومشروع تنموي حداثي ديمقراطي جديد متجدد الأفكار والقيم والمرجعيات والأطر الحضارية والإنسانية المرشدة لأدوات النظر والممارسة…
– ثانيا: تأهيل مقومات الفكر والمجتمع في واقعنا العربي كي تكسب قدرات المشروع الحواري المفتوح المتفاعل، من جهة، مع هويتنا وخصوصياتنا المادية والروحية المؤطرة بشروطها الزمنية المتعددة، ومن جهة ثانية، مع تحديات ورهانات اللحظة الحضارية الحالية المعولمة ب “نظامها العالمي الجديد” وثقافتها ومستجداتها المادية والرمزية المتسارعة التحول والتجدد على أكثر من صعيد، كما أكدنا على ذلك مرارا، وفي ثنايا هذا الحوار بالذات.
وفي إطار هذا المشروع، بأبعاده المحلية والكونية، يمكن النظر إلى “النقد المتعدد” بما هو أفق فكري حواري مفتوح، ورؤية حضارية رامية إلى الانخراط العقلاني الملتزم المسؤول في مجمل تحديات “تنمية الإنساني” كفيلة بأن تعيد ل “الإنسان”، في جوانبه المادية والروحية، ألق المكانة والدور، وتوهج القيم والمبادئ الأصيلة الجميلة. وخاصة في غمار تفاعلات “وضعنا البشري” المتوتر الآن، ذاك الذي أصبح محاصرا، بل مهددا بتحديات عولمية لاتجاهات وفلسفات واستشرافات ما أصبح يدعى حاليا بتيارات “ما بعد الإنسانية، أو عبر الإنسانية: Trans-humanisme”، المنذرة بما يتوقع أن تمارسه التكنولوجيات الجديدة الفائقة الدقة، والرقمنة العالية التطور من تأثيرات نوعية عميقة في الإنسان وفي “برمجة” عقله وتفكيره ووعيه وذكائه وبناه الجسدية والروحية، ومن تحكم مدهش مريع في مسلكياته: واختياراته السياسية والمهنية والاجتماعية، ومن توجيه وتشكيل لذوقه، وأساليب عيشه ونمط حياته، ومن تدخل مباشر وغير مباشر في تحديد معالم مستقبله المريعة المذهلة الغريبة، بل وحتى في موقعه المركزي في العالم، وفي مصير وجوده على هذا الكوكب الأرضي…ومع ذلك فإن الدفع باتجاه تدعيم “الأنسنة” الآنفة سوف يبقى في تقديرنا -ولاعتبارات أخلاقية وروحية وحضارية ليس هذا مجالا مناسبا لمناقشتها بما هو ممكن من تحليل وتفصيل- هدفا نبيلا ونضالا فكريا وعمليا مشروعا ضد ما يشهده العالم الآن من هيمنة متصاعدة للبؤس والشقاء والاهتراء، والكثير من مظاهر التفاهة و” الترذيل ” والرداءة المستشرية في كل مفاصل حياتنا المادية والرمزية المتباينة.
وفي مختتم هذا الحوار، نرى مفيدا ضرورة التأكيد من جديد على أنه لا يتجاوز كونه مجرد “نافذة/ نوافذ” يفترض أن نطل منها على ما عالجناه في منجز أعمالنا المتواضعة من إشكالات وقضايا سوسيولوجية وتربوية وفكرية عامة وما كان يحركنا في ذلك من اهتمامات وتوجهات وقناعات وهواجس نقدية متعددة…
إلا أنني إذا كنت، بكل صدق واعتراف، أكثر إحساسا بثقل ما عانيته من جهد في سبيل إنجاز هذه الأعمال، رغم ما يعتورها من جوانب المحدودية والقصور، فإن القراء من مثقفين وباحثين ومهتمين وفاعلين سياسيين وتربويين واجتماعيين…، على اختلاف أذواقهم ومقصدياتهم ومرجعياتهم القارئة، هم الأجدر والأحق، كما أرى، بان يصدروا حولها ما يعتقدون أنه ملائم من آراء وتقييمات وتقويمات ومواقف وأحكام…أحسن الظن بأن العديد منها سوف يكون أقرب إلى الموضوعية والتجرد والإنصاف والصواب…كما أرجو أن يجدوا فيها، كما في هذا الحوار بالذات، ، بعض ما ينفع ويفيد في الحاضر والمستقبل، وبعض ما يحفز على تدعيم ورفد وإنماء تلك “الجدلية المفتوحة” المنوه بها فيما قبل، والتي يطمح “النقد المتعدد” إلى أن يجعل منها سيرورة دينامية مشرعة على آفاق أرحب وأوسع احتضانا لقيم ومبادئ وثقافة الاختلاف والتعدد والتنوع الإنساني المبدع الخلاق، مما ينتظر منه أن يخصب، في الوعي والسلوك “إيطيقا” وقواعد الحوار والانفتاح والتعايش والتضامن والتسامح والسلام في هذا العالم الصاخب الموار…


الكاتب : حاوره: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 28/08/2021