حديث محبرة : نجمةٌ خَضْرا ودمعة حَرَّى على قبرعزيزة يحضيه الطاهر

ماذا يمكن للإنسان أن يقول أو حتى أن ينبس ببنت شفة حين يكون المصاب جَللاً، والخسارة فادحة، والفقد أليما؟ بأي الألفاظ يصف موت امرئ، موت إنسان: امرأةً أو رجلاً كان قيد حياته مشعا متوقدا ماليء الرحب والساحة بما وسعت، وشاغل الناس والنخب في أكثر جهات الوطن، من مائه البرزخي بطنجةَ حتى آخر كثيب في صحرائه بالكويرة؟. وأي اللغات تنصف ميتةً لا كالميتات؟، وبأي الأساليب وهي تنكسر وتتفتت كألواح جيرية تيبست منذ عديد الأعصر والأحقاب، يصف الميت ـ الحيَّ، ويوفيه بعض حق كان له، وكفَّ عن الصيرورة والاستمرار، أقصد حقه البيولوجي الذي احتازه وفق قانون وناموس ما أدركه ولن يدركه. ولكنه إنْ كفَّ عن الاستمرار في أكل الطعام والمشي في الأسواق، فروحه وحياته القصيرة لكن العريضة بما لا يقاس، تغمر المشهد ثقافة وأدبا، وشعرا، ونشاطا حقوقيا، ونضالا وطنيا. ومن ثَمَّ، فإن أبعاده هاته التي ذكرتها للتو، بها فارقيته: فَرْقَ روح وصروح معنوية وأدبية شيدها بعلمه وصبره، ودأبه ومثابرته إلى أن بوأته المكانة الأسنى، وشهدت له بطول الباع والذراع في ميادين معرفية وإعلامية شتى، تُبْقيه حيّاً: ذكره طيب سائر، وذكراه خَضِلَةٌ أبداً، والمسارح المختلفة التي وطئها، تشهد ببراعته في التتبع والكَلِم والخطاب والإبداع، والتأطير، وتستمر ناطقةً بيده البيضاء، يده الكريمة التي ما بخلت بشيء في ملكيتها، ووجدانه المُشْرَبّ بالوطنية في أسمى معانيها، وأرقى مبانيها.
فما مات من خلَّف ذكرا حسنا، ونشاطا، وأدبا نافعا ماتعا، وحضورا في المحافل باهرا، حضورا تعدد وأفعم ـ القاصي والداني ـ بالابتسامة العريضة، واللكنة الصحراوية الحبيبة، والدفء الإنساني الحي، والثقافة العميقة، والقيادة الناعمة للنواعم الكاتبات الرائعات اللواتي دُرْنَ بها كما تدور خاتم الذهب الإبريز بالأنْمُل الألماسي الرقيق البديع. ومن يكون هذا الذي فُجِعْنا فيه، بعد أن توَخّاه حِمام الموت بتعبير الشاعر الكبير المختلف: ابن الرومي؟. من يكون أو تكون هذه التي ملأت الساحة الثقافية والنضالية والإعلامية،نشاطا موفورا، وحضورا محسوسا منظورا، وتأطيراً مشهودا مذكورا، وحسا وطنيا ـ وهي الصحراوية محتدا وانتسابا وشجرة ـ مدهشا مشهورا؟ إِنْ لم تكن الشاعرة والإعلامية الودودة المحبوبة ذات الملاحف « المترفة « الناضحة جذرا وأُسّاً وعرسا، واللاّهجة برقراق الألوان الزاهية والناصعة التي تسبقها مغربيتهاإلى صحرائها، وصحراؤها إلى مغربيتها من دون استئذان، ولا مَنٍّ، ولا طمع في جاه أو مال او شكران؟. إنها عزيزة يَحْضيَه عمر الشاعرة والإعلامية، مؤسسة ورئيسة ( رابطة كاتبات المغرب ).
ورب سائلٍ محتار يسأل مستفهما، وربما مستنكراً: ولِمَ رابطةٌ للكاتبات، والحال أن في المغرب، منظمةً تاريخية عتيدة اسمها: ( اتحاد كتاب المغرب )؟ والحق أقول: إن مبادرة المرحومة عزيزة، شغلت فكر المثقفين أيامئذ، حيث انقسموا إلى فريقين: فريق مؤيد منتصر للفكرة والمبادرة النبيلة، وفريق مستكثر الفعلةَ، مستخفٌّ بها، ناكر للفكرة جملة وتفصيلا، معتبرا أن الرابطة نسوانية ذات منزع جندري تمييزي وتفريقي بين الجنسين: الذكر والأنثى. زدْ على ذلك، أن « كُتّاب المغرب « يتضمن لغةً ودلالةً: الإناثَ والذكورَ. ولهذا السبب عوملت ـ في البدء ـ معاملة فيها جفاء وإهمال وإشاحة. ظنّاً من الفريق إياه بأن الرابطة ما هي إلا شيء نشاز، سحابة صيف عابرة، جملة اعتراضية لا دور لها في الإعراب، ستصير بعد قليل إلى زوال تماما كمصير سلفٍ ثقافي لها، أطلق عليه: ( رابطة أدباء المغرب ) الذي ولد ميتا. غير أن ذكاء عزيزة يحضيه عمرـ مع ثلة من كاتباتنا المغربيات المتألقات المعروفات من خلال ما حَبَّرْنَ من مقال، وما أبدعن من قصة ورواية وشعر، وما كتبن من دراسة ونقدـ ألْقَمَهُم حجراً، وكان الفيصلَ البليغ؛ إذ ما عتمت الرابطة أن شقت طريقها بتميز ونجاح، وصارت تعقد اللقاءات والمنتديات والأماسي الشعرية في جهات الوطن، بل، ويتوالد منها فروع في ربوع البلاد، فروع نشطت رغم قلة الزاد والعتاد والمدد.
وليس من شك في أن أريحية وصبر ومثابرة وعزم المرحومة عزيزة يحضيه، كانت جميعا داعيا وباعثا، وأرضية للبذار والتخصيب، والتنشئة، والبناء والتشييد، والتحليق. فثقافتها ومسؤولياتها المتعددة، وصبرها الأيّوبي، وإصرارها القُطْرُبي، وإرادتها الحديد، جعل من ديناميتها المدهشة مثار متابعة وإعجاب، ومن الرابطة التي أسستها وراَسَتْها، محط اهتمام ومتابعة وتقدير بعد أن كانت من لدن « الرجال « محط إبعاد و» تشهير».
فصاحبة ( بوح طانطان )، و( صحراء، حناء، زعفران )، و ( هديتي لك )، تمثيلا لا حصراً، لم تأْلُ جهدا في الدفع بالرابطة إلى الواجهة، وقد نجحت. ولم تألُ جهدا في تمثيل المرأة المغربية مبدعة ومناضلة، ومسؤولة في كثير من المنتديات والمحافل والأمصار غربا وشرقا، وقد أبانتْ في ذلك عن شخصية فذة، ونجاعة، ومستوى عاليا يثير الحب والتنويه، أفضى إلى تكريمها في أكثر من مناسبة، والاحتفاء بشخصها، وكاريزميتها « الناعمة « التي بوأتها المكانة المعتبرة.
ولربما يكون اشْتِعالُها العملي، وإيقاعها المتواصل الذي لم يهدأ لحظة، ولم يفتر في جمعها لعديد المسؤوليات الجسام، وضميرها الحي المتقد، واحتراقها الثقافي اليومي، وعناء ووعثاء الذهاب والإياب مؤطرةً ومُدَرِّسةً، ومُنشطة، ربما يكون كل ذلك وراء ملاقاة حتفها سريعا بعد أن انهدت قواها، وتعب قلبها الذي لم يعد قادرا على التحمل أكثر، ولا مستطيعا أن يطاوعها في سرعتها ومسعاها إلى قطف بغيتها. أخيرا: لم أكن أخفي سعادتي حين أرمق اسمها « ينقر « ( لاَيْكْ )، تفاعلا مع كتاباتي ومقالاتي على صفحتي بالفيسبوك. كانت زَوْرَتُها ـ رحمها الله ـ لافتةً، وإطلالتها وازنةً.
وكنتُ ـ والله يشهد ـ أتَحَيَّنُ الفرصة المواتية لأجدل آصرة الأدب والإبداع والأخوة معها، لكن المنيّةَ كانت تتحين الفرصة بدورها لملاقتها، فسبقتني.
فسلام عليها يوم ولدت، ويوم ماتت، ويوم تبعث مع الأحياء البررة. والعزاء لذويها وأسرتها الصغيرة، وأسرتها الكبيرة المتمثلة في كاتبات ومبدعات وإعلاميات المغرب، وفي كُتاّبه ومبدعيه ومثقفيه.

تــــنـــــويـــه:
ــ شهادتي التي ساهمت بها في الكتاب الجماعي: ( امرأة بحجم الحلم )، تكريما للراحلة المبدعة عزيزة يحضيه عمر؛ والذي أعده الصديق البهي: حسن بيريش، وأصدرته رابطة كاتبات المغرب بدعم من وزارة الثقافة.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 24/06/2022