حوارات ولقاءات مع بيير بورديو 36- مغامرو الجزيرة الساحرة

بعد وفاة بيير بورديو، نعتْه الأخبار اللبنانية – من بين منابر أخرى في العالم، أكثرها عددا من أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط – في مقالة تحت عنوان « ببير بورديو شاهدا على بؤس العالم» واصفة إياه ب «العالم المناضل الذي هجر الفلسفة وفخامتها الخادعة»، كما يقول هو نفسه. واعتبرته « لوموند» من زعماء حركة مناهضة العولمة ومن أشد منتقدي الرأسمالية. فعلا، ففي نص بعنوان «لأجل معرفة ملتزمة»، نشرته «لوموند ديبلوماتيك» عدد فبراير 2002، أياما قليلة بعد وفاته، يقول الباحث وعالم الاجتماع الفرنسي، بيير بورديو، إنه «ضروري في أيامنا هذه أن يلتزم الباحثون المستقلون بالحراك الاجتماعي وخصوصا في مواجهة سياسة العولمة»؛ وقد كان، بالفعل، حاضرا وبقوة في الأنشطةالسياسية شملت مؤلفات بورديو موضوعات الثقافة والأدب، و الفنون و السياسة والتعليم و الإعلام وموضوعات دعم كفاح الطبقة العاملة و المعطلين، ما جعله نقطة ارتكاز فكري لليساريين.
إلا أنه تميز أكثر باشتغاله في مجال السوسيولوجيا (من بين مؤلفاته في المجال ” أسئلة في السوسيولوجيا “، 1981)، حيث يرى البعض أن أعماله تجديد للنظريات السابقة. نقف، مثلا، على مفهوم ماركس فيبر عن أهمية القيمة الرمزية لشرعية كل سيطرة في الحياة الاجتماعية. كما طور مفهوم رأس المال انطلاقا من نظرية ماركس لتنطبق على النشاطات الاجتماعية و ليس على الاقتصاد فقط. نجد، أيضا، في نظرية بورديو حتمية إميل دوركهايم، وبنيوية ليفي ستراوس، وإلى جانب علماء الاجتماع الذين أثروا فيه، نجد فلاسفة تركوا بصمتهم في أعماله مثل هسزل وفيتغنستاين، كما تأثر بباسكال واعتبر نفسه في كتابه ” تأملات باسكالية “(1972) ” باسكالي الهوى”.
كل ذلك، إلا أن إطلالاته الإعلامية عرّضته لحملات قاسية بسبب انتقاده دور الإعلام وتوجهاته التي لا تتسع للنقد، بل تسهم في قولبة الوعي حسب النمط المهيمن والقيم السائدة.
لتقريب القارئ من عوالم بيير بورديو، الغزيرة و المقلقة، نقترح هنا ترجمة لسلسلة من حواراته ولقاءاته.

 

مغامرو الجزيرة الساحرة

– كخلاصة لكتابكم، ترسمون «خالصا»، الجزيرة الساحرة الوحيدة حيث يمكن أن تختفي علاقات الهيمنة بين الجنسين. بمناسبة هذا الظرف، ما هو الصفاء؟
– الخالص، يعني المستقل عن السوق، المستقل عن المصالح. الحب الخالص، هو الفن من أجل فن الحب، الحب الذي ليست له غاية أخرى سواه هو نفسه. حب الفن والحب الخالص بناءان اجتماعيان وُلدا معا خلال القرن التاسع عشر. يقال دائما بأن الحب يرجع إلى عصر التروبادور. ليس ذلك خطأ. لكن الحب الرومنسي، كما نعرفه، هو فعلا اكتشاف الحياة البوهيمية، وذلك إطلاقا هو موضوع «التربية العاطفية» لفلوبير: «المواجهة بين الحب الخالص والحب» العادي ،…

– وما هو الحب العادي؟
– هو الحب المعاقَب اجتماعيا. يبتكر الحب الخالص نفسه عند الفنانين، عند الناس الذين يمكنهم الانهماك في علاقة غرامية لرأس المال الأدبي، للخطاب، للكلمة… كل ما أدرجه فلوبير في روايته. النساء الثلاث اللواتي يُبرزهن كل واحدة منهن تمثل من تمثلات الحب وتتحدث الواحدات ضد الأخريات. السيدة دامبروز تجسيد للحب البورجوازي، السيدة أمولت للحب الخالص وروزانيت للحب المحتال و المرتزق. ويتحدد الحب الخالص، في الوقت نفسه، ضد الحب البورجوازي الذي هدفه المهنة، وضد الحب المحتال الذي هدفه المال، بما أنهما معا حبان مرتزقان فعلا.

– انطلاقا من هنا، هل الحب الخالص هو بالضرورة انتهاك اجتماعي؟
– نعم، طلما أنه في قطيعة مع النظام الاجتماعي الذي يتطلب ضمانات أخرى. الحب الخالص، هو الحب المجنون: الحب الاجتماعي اللائق حب تابع لمقتضيات إعادة الإنتاج، ليس البيولوجية فقط بل الاجتماعية.

– بالإمكان أيضا أن يكون هناك حب داخل هذا الحب؟
-بالطبع، هو أيضا حب. لكن ليس حبا مجنونا. إنه حب مطابق، حب للمصير الاجتماعي، «الحب مصير». يحب العاشق «موعودته»، هذه المسلمات السوسيولوجية كثيرا ما تُولد اليأس عموما، والحال أننا حين ندرس الزيجات إحصائيا، نلاحظ أنها توحد رجالا ونساء من نفس الوسط. في السابق، كانت الأسرة هي التي تهيء هذا الزواج المتكافئ وتضمنه؛ كان زواج العقل، زواج العقل الاجتماعي؛ أما اليوم، فالأطفال والفتيات يلتقون بطرق حرة ظاهريا، وينجح الزواج المتكافئ دائما. في مدينة بيارن، درست هذا الانتقال من الزيجات المهيأة إلى الزيجات الحرة، بما أن الحفلة الراقصة أصبحت هي «السوق» حيث تعقد الاتحادات التي تتولد عنها الزيجات. المهم، كون هذه الزيجات ليست نتاجا لا لاختيار ولا لتدخل هيئة أعلى (الأسرة)؛ إنها نتاج مقتضيات اجتماعية نسميها الحب…
بالإضافة إلى ذلك، لدينا نسبة طلاق مرتفعة لأننا نستثمر في الزواج انتظارات غير متناسبة. ذلك مرتبط، بوجه خاص، بالنساء التابعات لقيم الحب أكثر من الرجال، لأسباب – سوسيولوجية لا غير، لا علاقة لها ب «الطبيعة» النسائية المفترضة. يقال في معظم الأحيان بأن النساء رومنسيات، وذلك صحيح، في جميع الأوساط، على جميع المستويات، كما يؤكد ذلك كونهن مرتبطات بالقراءة و الأدب.

– سيكون الحب الخالص إذن هو الاستثناء، العابر بالضرورة. ولا يبدو أن بإمكانه الوجود إلا خارج العالم. أليس بالإمكان، مع ذلك، أنه حتى وهو يتصارع مع العالم، مع الإكراهات الاجتماعية، يظل هو الأقوى؟
– يحدث ذلك. والأدب ممتلئ بانتصارات الحب الخالص. في الواقع، تلك الجزيرة الساحرة التي لا عنف فيها، لا هيمنة فيها، عرضة للشيطان. ليس ذلك عقلانيا بمعنى مطابق للوقائع الاجتماعية؛ ذلك «معجز»، بين عدد كبير من المزدوجات، معجز سوسيولوجيا: ذلك مرجح إلى حد ضئيل، قد يحدث ذلك، إلا أن له حظا واحدا من ألف. إن التبادل الرائع، الانبهار المتبادل، مصيره الذبول… ولو لمجرد تأثير الروتين.
لا يريد الناس أن نشرح أمورا يريدون الاحتفاظ بها «مجردة». أما أنا فأرى أنه من الأفضل أن نعرف. غريب جدا أن نتحمل الواقعية على نحو سيء جدا. إن السوسيولوجيا، في العمق، قريبة جدا مما نسميه الحكمة وهي تعلمنا الاحتياط من المخادعات. أفضل أن أتخلص من الانبهارات المزيفة لكي يمكنني الاندهاش ل «المعجزات» الحقيقية. مع العلم أنها ثمينة لأنها هشة.

– وإذا أبعدنا جميع علامات الهيمنة الذكورية، ماذا ستكون حصة الممكن، بين الرجال والنساء من الإغراء (الذي تقول عنه إنه اعتراف ضمني بالهيمنة الجنسية) باللعب بين الكائنات، أي الفتنة؟
– بعض المثقفين يدافعون عن التقاليد الفرنسية في مجال اللياقة، قلقين مع ذلك وهم يرونها معرضة للخطر من طرف الخيبة الراهنة للعلاقة رجال/نساء. هذا النوع من المواقف، الذي يمضي في الغالب بشكل متوازي مع الحذر اتجاه الحركة النسائية، بغيظ جدا بالنسبة لي لأنه طريقة حديثة للرجوع إلى كواكب قديمة. ليس ذلك مهما ثم إنه خاطئ. هل الوضوح حول العلاقات بين الجنسين أو حول العلاقات الجنسية عموما، يمكنه تدمير السحر كله؟ لست متأكدا من ذلك.
بالعكس، سيُخلص ذلك العلاقات مما يثقلها، من سوء النية (بالمعنى السارتري ل «الكذب على الذات»)، من الغش، من سوء التفاهمات.
يعلم لله أنني لست متفائلا جدا، لكن في بعض الميادين، تكون لتحليل آثار الهيمنة الرمزية فضيلة سريرية. يدمر ذلك الإكراهات التي يفرضها الناس على أنفسهم لأنهم في أدوار تشكلت قبليا، في « برنامجين « اجتماعيين. واحد لخلق الرجل، الثاني لخلق المرأة.

-حين نرى نجاح قرص «الفياغرا»، نقول لذواتنا بأن تحقيق ذلك يتطلب الكثير من الوقت، طالما ظلت الفحولة قيمة وقلقا.
– إنها قلق لأنها قيمة. نجاح قرص «الفياغرا» مجرد تأكيد مرئي لما نعرفه منذ وقت طويل في العيادات الطبية وعيادات التحليل النفسي.
بإمكان الرجال، بوجه الخصوص، أن يُبسطوا لأنفسهم الحياة. الدور الذكوري لا يطاق جدا بالنسبة لي منذ وقت بعيد في جانبه الصانع، الخادع، هل وجدتني افتضاحيا. لو تخلصت علاقات الذكور/الإناث (التي يعاد إنتاجها عند المثليين أيضا) من واجب الاستعراضية، لكنا نتفسنا بشكل أفضل. خُدع الرجال، شيء قاتل.


الكاتب : ترجمة: سعيد رباعي

  

بتاريخ : 02/06/2021