رجال الدار البيضاء «مرس السلطان» أحمد المديني يرصد تحوّلات المدينة

 


في العام 1976، أصدر الروائي المغربي أحمد المديني روايته الأولى بعنوان “زمن بين الولادة والحلم”. وفي العام 2021، صدرت روايته السادسة عشرة بعنوان “رجال الدار البيضاء” عن المركز الثقافي للكتاب. وبين الإصدارين أربعة عقودٍ ونصف، وخمسةٌ وستون كتاباً في الأنواع الأدبية المختلفة، تتوزّع على ست عشرة رواية، خمس عشرة مجموعة قصصية، خمسة كتب في أدب الرحلة، ثمانية كتب في السيرة الذاتية، أربع مجموعات شعرية، وسبع عشرة دراسة جامعية ونقدية. والحبل على الجرّار. وإذا ما قسّمنا عدد الكتب على عدد السنين التي أُنتجت فيها، يتبيّن لنا أن المديني كتب كتاباً وربع الكتاب كلّ سنة، ما يجعلنا إزاء أرضٍ خصبة، وفلاّحٍ نشيط، وحصادٍ أدبيٍّ وفير.
الحراك السياسي

“رجال الدار البيضاء” رواية ضخمة كماًّ ونوعاً، تعكس حِرَفية الكاتب، وطول تجربته، وسعة ثقافته، وإلمامه بالتفاصيل والجزئيات، ما يجعل من الرواية شهادة فنيّة على مرحلة تاريخية معيّنة، لها جذورها وفروعها، في مدينة مغربية عريقة، وهو ما يجعل من الروائي مؤرّخاً فنياًّ بامتياز. ففي روايته، يرصد أحمد المديني الحَراك السياسي، الاجتماعي، الثقافي، في الدار البيضاء خلال السبعينيات من القرن العشرين، ويتناول التحوّلات التي تطاول الإنسان والمكان والزمان، من خلال الأحداث الدائرة، في مجموعة من الدوائر الصغرى المتداخلة، المنتظمة في كبرى، هي دائرة العلاقة بين السلطة والمعارضة. وهي أحداث تنخرط فيها مجموعة من الشخوص، المتخيّلة والحقيقية. تتفاعل في ما بينها، بشكل أو بآخر، وتتقاطع مساراتها وتتوازى، ويكون لكلٍّ منها مصيره المتجانس مع مصائر الآخرين أو المفارق لها. وهي، في الغالب، مصائر قاتمة.
جريدة “المحرّر”

تُشكّل جريدة “المحرّر” التي يُصدرها حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المعارض الدائرة المحورية للأحداث، المتداخلة مع دوائر: الحزب، النقابة، المقهى، الساحة، المدينة، والمخزن. ففي هذه الدائرة، تلتقي مجموعة من: الحزبيين، والسياسيين، والمناضلين، والانتهازيين، والمتسلّقين، والصحافيين، والمدرّسين، وعمّال الطباعة. وينخرطون في شبكة من العلاقات المتنوّعة. يختلط فيها العمل والنضال والسياسة والزمالة والصداقة والصراع والنفاق والانتهازية. وتتمخّض عن معدن كلٍّ منهم. ومن خلال هذه الشبكة، تضيء الرواية الحراك السياسي، الاجتماعي، الثقافي، في العالم المرجعي الذي تحيل إليه. ونتعرّف إلى قمع السلطة، وأساليب عملها، وترغيبها وترهيبها، وتكتيكها واستراتيجيّتها، من جهة. ونتعرّف إلى ازدواجية المعارضة، وتضحيات قاعدتها، ونفاق بعض قياداتها، ورهاناتها الخاسرة، من جهة ثانية. ويكون على الشعب الفقير أن يدفع أثمان الصراع الغالية بين الطرفين، مع العلم أن العلاقة بينهما مشوبة بتاريخ من التوتّر وانعدام الثقة والتربّص المتبادل.
الطرف الأوّل: يتمثّل الطرف الأول في دائرة المخزن، والأدوات التي تستخدمها، والممارسات التي تقوم بها؛ فالمخزن هو السلطة المركزية صاحبة القرار. والأدوات هي رجال الحكم، وأجهزة الأمن، وعناصر الشرطة، والمخبرون، و»البراغيث»، والمحقّقون، والسجّانون، وغيرهم. والممارسات هي التلصّص على المعارضين، ومطاردتهم، واعتقالهم، والتنكيل بهم وقمع الصحافة واختراق الأحزاب، واستخدام الشعب ورقة تفاوض في الاستحقاقات الكبرى، والحؤول دون تحقيق تطلّعاته إلى التغيير، وغيرها. وهذه الآليات ليست وقفاً على العالم المرجعي للرواية بل تنسحب على النظام العربي برمّته. ولعلّها كانت السبب الرئيس لاندلاع ما سمّي بالربيع العربي في غير منطقة عربية، بمعزل عن النتائج الكارثية التي ترتّبت عليه، في بعض المناطق. على أنّه، لا بدّ من الإشارة إلى أن حضور هذا الطرف في الرواية هو حضور غير مباشر، يتم من خلال الأفعال المنسوبة إلى أدواته، من قِبَل رواة الرواية المنتمين إلى الطرف الآخر. وبهذا المعنى، لا نقع في النص على أية شخصية تمثّل السلطة ما خلا إشارات عابرة إلى هذا المخبر أو ذاك، ممّن تطلق الرواية عليهم تسمية «البراغيث».
الطرف الثاني: يتمثّل الطرف الثاني في دوائر الجريدة، النقابة، والحزب. والأدوات التي يستخدمها هي: العمّال، الحزبيون، النقابيون، الصحافيون، المثقّفون، وغيرهم. وأشكال المعارضة هي: الكتابة الصحفية، العمل النقابي، النضال الحزبي، التظاهرة، الاعتصام، الانتفاضة الشعبية، وغيرها. وهذا الطرف المغيّب عن المشاركة في السلطة يستأثر بالحضور النصي في الرواية، وكأن الكاتب أراد، من حيث يقصد أو لا يقصد، معاقبة الطرف الأوّل، المستأثر بالسلطة الفعلية في الواقع، بتغييبه عن الحضور المباشر في النص، من جهة، وأراد التعويض على الطرف الثاني، المغيّب عن المشاركة في السلطة في الواقع، بحضوره الطاغي في النص. لكن هذا الحضور الطاغي لا يحجب الأعطاب التي تعتوره، من انقسام، وصراع أجنحة، وازدواجية ولاء، وانتهازية سلوك، واقتناص فرص، وزحف على البطون، ونفاق سياسي، وممالأة الحاكم.
شخوص وأنماط

من هنا، نقع، بين المنخرطين في الدوائر الثلاث، على نماذج مختلفة من الشخوص، وأنماط متعدّدة من السلوك. ومن هذه الشخوص والأنماط: القائد السياسي، والمناضل النقابي، والزعيم الشعبي، والمعتقل السابق، والمبدئي الذي لا يساوم، ويتوّج حياته بالاستشهاد (عمر بن جلون). الصحافي الحر الذي يضيق بالأطر الحزبية، ويوثر الحرية والتفرّد، ويترفّع بمهنيته عن السياسة، ويصادق الأدباء والشعراء، وينخرط في حب الحياة (زهوان). والصحافي الحذر، المتحفّظ الذي يؤثر البقاء في الظل، ويبقى على حافّة الحياة، لكنّه لا يتوانى عن فضح سادية السلطة وفساد المعارضة (عبد الهادي). الصحافي المحترف، اللطيف، خفيف الظل، واسع الاطلاع، الشغوف بالعمل، القريب من العمال، المؤثر للوحدة على الاختلاط (حسن العلوي). العامل الجدي، والمناضل القديم الذي يكون عليه تلقّي التعليمات من بعض محدثي النعمة (المصطفاوي). المناضل الحزبي، المعتقل السابق، أحد “مساخيط الملك”، المنقطع للعمل، المؤثر مصلحة الحزب على مصلحته الخاصة، لكنه لا يتورّع عن التلصّص على الزملاء لمصلحة المسؤول الحزبي الكبير (قاسم مول الفز). الزعيم في سلوكه المزدوج الذي يتزعّم القاعدة الحزبية، وينادم الملك، في الوقت نفسه كما تقتضي مناورات السياسة. المسؤول المحدث النعمة الذي يغمط الآخرين حقّهم، ويبعدهم عن مركز القرار، ويحاول الاستئثار بالسلطة الحزبية أو الصحافية (يحيى القرطبي).
هكذا، يستأثر الرجال بمواقع النضال والقرار والعمل في الدوائر المعارضة، ويقتصر حضور المرأة على شخصية واحدة، هي عاملة الهاتف التي تتعرّض للتحرِّش الجنسي، ويكثر خُطّابها في موقع العمل. وحين تجاري المتحرّشين والخطّاب، وتعاملهم بأساليبهم ذاتها، يتمّ الاستغناء عنها، وتُطرد من العمل (نفيسة)، ما يعني أنّه حتى الدوائر المعارضة المطالبة بالتغيير تغرق في ذكوريّتها حتى النخاع.
وإذا كانت دائرة المخزن حكراً على السلطة، ودوائر الجريدة والنقابة والحزب حكراً على المعارضة، فإنّ ثمة دوائر أخرى كانت تجمع بين الطرفين، بشكل أو بآخر، كالمقهى والساحة، ففي الأوّل يمكن أن نجد المعارض والمخبر، وفي الثانية، يمكن أن نجد المتظاهر والشرطي. وفي الدائرتين قد يندلع صراع مضمر أو معلن.
التحوّلات المختلفة

انطلاقاً من حركة الأحداث في الدوائر المختلفة، يمكن الكلام على تحوّلات، بطيئة أو سريعة، سلبية أو إيجابية، تطاول المكان والزمان والإنسان في الرواية؛ فالمكان، بتمظهراته الكثيرة لا سيما مرس السلطان، يجعل منه الكاتب شخصية روائية واسعة الحضور، ويقوم برسم خرائط نصية، في الفصول المختلفة، تحدّد مواقعه ووظائفه، ما يفتح الرواية على الجغرافيا. وهو، بذلك، يحتفي بالمكان أيّما احتفاء، ولعلّه يفعل ذلك تعويضاً عن ابتعاده عنه، بحكم إقامته الباريسية، فيقرّب بالرواية ما هو بعيد في الجغرافيا كأنك فيه ويبنى من جديد فيما هو ذاته المنذور للزوال. ذلك أن تحولات سلبية تطرأ على المكان، بتمظهراته العديدة، في نهاية الرواية؛ فتزول منصّة الوسط، وتتغير ملكية المطعم، ويُغلق مشتل الورد، وتُفلس المكتبة، وتخلو المقاهي من الأدباء والمثقفين ليشغلها السماسرة والولدان والعرّافون، وتتحوّل الساحة إلى مبولة ومخرأة عمومية، في صورة فساد تام للأمكنة وهجنة لها مع الإنسان، في مظاهر تبدل سلوكها من عيني السارد أو الوصف المباشر لعينات بشرية تحضر شخصيات موازية ومكملة للشخصيات المحورية تنسحب بمجرد أداء دورها وهي تشترك في المعزوفة الجماعية ل” رجال الدار البيضاء” ساحة مرس السلطان بؤرتها المركزية، منها تنطلق خطوط الحكي والحبكة وإليها تعود وفي كل عودة يكون الحبل قد زاد نسجا وشدا وتعاضدت المحكيات وتكاثف السرد وظلاله.
وتطال التحولات السلبية الشخوص الروائية المختلفة؛ فَيُقتل عمر بن جلّون، ويُصاب زهوان بالصرع، ويموت أحمد المجاطي وأحمد الجوماري ومحمد زفزاف ومحمد المازني وسعيد الصديقي وزينون، ويهاجر أحمد المديني، ويقلع مصطفى النيسابوري عن كتابة الشعر أو يبتعد. هذا على المستوى الفردي. أمّا، على المستوى الجماعي، فتتخذ التحوّلات منحى إيجابياًّ بعد طول مراوحة، فتندلع تظاهرات الربيع المغربي في العام 2011 دون أن تقوم السلطة بقمعها كما جرت العادة في الأعوام 1965 و1971 و1972 و1981، ما يفتح الأفق الروائي على التفاؤل بمستقبل أفضل، لا سيّما بعد أن تتخذ السلطة المبادرة، وتقوم بإجراء الإصلاحات اللازمة.
الخطاب الروائي

يضع أحمد المديني روايته في ثلاثة وأربعين فصلاً، تشغل حوالي الستمائة صفحة. ومع ذلك، استطاع بِحِرَفية واضحة أن يجنّب روايته أعطاب الطول وأعراضه، من ترهّل وتكرار ونُبُوٍّ وقلقلة ورتابة وغيرها. ولعل إفراده حيّزاً واسعاً للوصف، على أنواعه، في الرواية، ناهيك بطولها، جعل الإيقاع الروائي بطيئاً، وهو ما يجانس الامتداد الزمني للمرحلة التي يرصدها البالغة عشر سنوات، يُضاف إليها العودة إلى العام 1965، والذهاب إلى العام 2011. وعليه، تتعدد أنماط الكلام في الرواية، وتتراوح بين السردي والحواري والوصفي والوجداني والإيعازي والبرهاني وغيرها، بنسب مختلفة بين نمط وآخر. وتتجاور الأنماط داخل الفصل الواحد. وهو يتنقّل بين ضمائر السرد، ويعدل بالضمير عمّا وُضع له في الأصل مستخدماً ضمير المخاطب في معرض المتكلّم والغائب، على سبيل المثال، فيخاطب الراوي نفسه أو الغائب عنه، في خطوة لا تخلو من دلالات بلاغية معيّنة. وهو يدمج الحوار في متن الصفحة مع السرد دون أي تمايز إخراجي بينهما. ويكسر نمطية السرد بأنواع كتابية أخرى كالخبر الصحفي، المقالة، القصيدة، الأغنية، الخطاب السياسي، التقرير الأمني، إفادة الشرطي، التقرير الصحافي، مطالعة الدفاع، خطبة المشعوذ، المنشور السياسي، وغيرها، ما يجعل من النص عالماً موازياً للعالم المرجعي بتنوّعه وتعقيداته الكثيرة. وهو يسند عملية الروي إلى الشخوص المختلفة بوتيرة فصل واحد للشخصية، في الحد الأدنى، كما في حالة عاملة الهاتف نفيسة، وعدد كبير من الفصول، كما في حالة الصحافي زهوان، الراوي الأساسي وبطل الرواية. ويترك للراوي العليم مساحات ضئيلة تكتفي بالربط والتنسيق، على أنّه قد يجتمع أكثر من راوٍ واحدٍ في الفصل الواحد.
بهذه التقنيات والحكايات، تشكّل “رجال الدار البيضاء” علامة فارقة، ليس في الرواية المغربية فقط، بل في الرواية العربية. وهي، بانفتاحها على الحقول المعرفية المختلفة، تشكّل مصدراً للفائدة. وهي، بانخراطها في التقنيات السردية المتنوعة، تشكّل مصدراً للمتعة. وفي الحالتين، تحفظ لأحمد المديني موقعه المتقدّم على خريطة الرواية العربية.

* ناقد أدبي وشاعر
من لبنان


الكاتب : سلمان زين الدين*

  

بتاريخ : 12/03/2021

أخبار مرتبطة

  قد تحمل الحرب الإسرائيلية الجارية علnى قطاع غزة  المفكر المغربي المعروف عبدالله العروي على التفكير في كتابة الجزء الخامس

تعني الكتابة في ما تعنيه، أن تتواجد في مكان آخر بينما أنت قابعٌ في مكان مّحدد المعالم، أي أن تكون

يرتقب أن تستقبل مؤسسة»أرشيف المغرب» معرضا خاصا بمسار عبد الواحد الراضي، القيادي الراحل في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وقبله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *