«رجال الدار البيضاء – مرس السلطان» لأحمد المديني الرواية المدينة

يتميز أحمد المديني بوفرة إنتاجه الروائي،  إذ توالت رواياته بانتظام منذ سبعينيات القرن الماضي، بنفس متجدد وطراوة إبداعية لا تفتر. كأن الكاتب لا يكف عن البحث في خضم هذا التراكم عن رواية أو روايات لم يكتبها بعد، منيعة وعصية، يحدس ملامحها متخايلة كل مرة في أفق إبداعه وكتابته.  فهل تكون « رجال الدار البيضاء.  مرس السلطان «، واحدةً من هذه الروايات التي ظلت تراود إبداعيته الوثابة، المتحفزة دوما لما لم يكن قد كتبه بعد؟
  يمكن أن نزعم بأن الرواية الجديدة للمديني تبدو قياسا إلى حجم رهاناتها الجمالية، نتاجا فريداً في مسار إبداعه، جسدت احتمالا طموحُه إلى كتابة «رواية الدار البيضاء»، صنيع روائيين آخرين، عربا وأجانب، اشتهروا بتأليف روايات يمكن وصفها ب « الروايات المدن»، نظير لورنس داريل الإنجليزي في « رباعية الإسكندرية» وإبراهيم عبد المجيد المصري في» لا أحد ينام في الإسكندرية»

 

 

. لقد دأب المديني على كتابة روايات تنغرس في تراب الأمكنة، يناظر معمارها الجمالي ويشاكل معمار الأمكنة وبنيانها. أما سارد هذه الروايات، فيلاحق بعين المسّاح تشكّلاتها وامتداداتها، استواءاتِها وتفرّعاتها، ينفُذ الى طبقاتها المتراكبة وتنضيداتها الغائرة. يتواتر ذلك مع مدن، مثل الدار البيضاء في « الجنازة»(1987) و» مدينة براقش»(1998)، وفاس في «رجال ظهر لمهراز» (2007) و»فاس لو عادت اليه» (2003)، والرباط في « ممر الصفصاف»(2014)، وباريس في « المخدوعون»(2012)، والجزائر العاصمة في» ظل الغريب».(2017).
في روايته الجديدة، عاد المديني إلى مدينة الدار البيضاء من موقع زمني مختلف، بوصلته سبعينيات القرن الماضي، اختار منها عديد أمكنة تأتي « مرس السلطان» وجوارها قطب رحاه، بساحته الرحبة التي شكلت اللحمة الخرائطية للرواية، منها انطلق الحكي، وإليها ظل مشدودا في ذهاب وإياب، في حركة لولبية، تتداعى فيها الذاكرة بحكي متراكب يعلو بعضه بعضا وتتناسل منه محكيات فرعية . فشكلت الساحة بذلك مرتكز الرواية، ومناط توازنها وتماسكها، تشد أزر بنائها شدّاً محكما ومعها بصر ونفس القارئ الذي يصبح بدوره مأخوذا بالمكان وشخصياته وما يجري فيه بين ماض وحاضر.
مثلت الساحة في الرواية، بأمكنة محددة: براسري مدام غيران، مقهى لاكونكورد، المدارة، المخبزة، الصيدلية التي تعلوها لوحة زجاجية تنشق ألوانها المضيئة عن أشخاص يأتون من ماض بعيد، تستقدمهم الذاكرة قبل أن يستعيدهم الغياب إلى مكانه الغامض.
تضعنا الرواية، منذ البداية، في قلب هذه الساحة، وفي الآن، أمام شخصية متقدمة في العمر، تجلس وحيدة في باحة مدام غيران، متلفعة في صمتها، تثير بهيأتها الملغزة فضول مرتادي المقهى، يحاولون عبثا استكناه غموضها والتعرف على هويتها بفضولهم. سنكتشف أن الرجل خزان ذاكرة، ومحفلها، مناط يتجمع فيه الماضي ويتكاثف، بوقائعه ووجوهه، بأزمنته وأمكنته، لا يلبث أن يتداعى، ككبة خيط تتناسل خيوطها في اتجاهات متفرقة، قبل أن تلتئم من جديد في حركة حضور وغياب، ذهاب وإياب. هو الماضي لا يكف عن العود إذن، يتخايل طيفا أو جسدا.
لقد انتظمت الذاكرة في مساحات الاستعادة الشاسعة، السبعينات مركزها، لكنها تمضي أحيانا إلى ما قبلها، زمن الاستعمار ومقاومته بالبيضاء،( بين المدينة العصرية ودرب الكبير) وانتفاضة البيضاء عام 1965، ثم تؤوب صعدا إلى الثمانينات وانتفاضة يونيو 1981 بالبيضاء، قبل أن ترسو في آخر الرواية على حاضر التذكر الذي زامن ظهور حركة 20 فبراير.
انفتحت الذاكرة إذن على تاريخ مدينة تقلبت فيها المصائر والأهواء الفردية والجماعية، واعترت عمرانها وأمكنتها تحولات أعطبت حداثتها الناشئة. كما انفتحت على سير» رجالات» الدار البيضاء، وهم مناضلون وكتاب وشعراء وفنانون يذكرون بالأسماء وتراهم أمامك أعلاما وشخصيات في آن، وهو طرز فريد حقا، كذلك أفراد طابقت سيرتهم سيرة المدينة، فصاروا يكنون بها، وينبؤون عنها.
لم تجعل الرواية من الدار البيضاء خلفية لأحداث الرواية وتعاقب وقائعها، بل جعلت منها حدث الرواية وشخصيتها الرئيس وبطولتها، كائنها الذي يهجع ويسكن طويلا، قبل أن يمور وينتفض فجأة.
يمثل جسد المدينة في الرواية، من زاوية العين الواصفة، الراصدة لخرائطيته المركبة، تستعيد من خلالها مادية الشوارع وتفرعاتها ومداراتها، والأماكن المبثوثة على جنباتها، كالحانات والمراقص والمقاهي، ومطبعة ومبنى الجريدة (المحرر) ومسلخ المدينة الشهير باسم(الباطوار) الذي يتحول فجرا بعد أن ينتهي الذبح والسلخ إلى حلبة للشواء يرتاده من تأخرت بهم صعلكة الليل يرتادونه أفرادا وجماعات لسد جوعهم ويذهبون إلى مضاجعهم، بينما المدينة تدخل يوما جديدا من باب الفجر، كائناتها هكذا أشتات وأمزجة وأذواق وأنماط معيش، وساردها يرقبها ويصفها بالريشة التي تناسب.
بهذه الاستعادة المشوبة بالتذكّر ولوعة الحنين، تبدو الرواية كما لو أنها تريد أن تستديم هذه الأمكنة، وتستبقي الوجوه التي كانت تقيم فيها، ماثلة وشاخصة، كي لا يمحوها الغياب، ويصعب فصل الأحداث والوقائع في الرواية عن أمكنتها. فالصلة بينهما موثوقة. وقارئ الرواية لن يحتفظ بالحدث مفصولا عن مكان احتضانه. إذ سترسخ في ذهنه دون شك وقائع الرواية مقرونة بأسماء براسري مدام غيران، وساحة مرس السلطان ومدارته، ومقهى لا كونكورد، ومطبعة الجريدة..الخ.
لقد أفضى الاشتغال على المكان، إلى الاشتغال بالتلازم على الحيوات التي نشأت فيه، وشغلته وصدحت فيه عاليا. شخّصت الرواية هذه الحيوات من خلال بناء صوتي متعدد، شيّدته بأناة، فاستحالت بالإضافة إلى كونها رواية المكان، رواية أصواته العديدة. لذا توالت فصول الرواية بلسان رواة كثر، يروون بلغاتهم أو يروى عبر منظوراتهم، نصيبهم من محكي ذاتي وجماعي، تشكلت تقاسيمه كلها في بيضاء السبعينات.
يوجد في قلب مجرة هذه الأصوات، السارد زهوان، أستاذ التاريخ الذي التحق متعاونا بجريدة المحرر ، أثناء إصدارها عام 1975.  لقد عايش زهوان من خلال عمله الصحفي أحداثا ومواقف، تقاطعت فيها أجواء العمل بالجريدة بالوضع السياسي العام للسبعينات، وبالصراع المشتد حينه بين المعارضة اليسارية والسلطة الحاكمة، من جهة، والخلاف الناشب داخل التنظيم الحزبي بين « جماعة الرباط» و»جماعة الدار البيضاء»، فضلا عن سياقات تنظيم المؤتمر الاستثنائي للحزب الاتحاد الاشتراكي عام 1975، وتنظيم المسيرة الخضراء ثم الحدث القاصم، اغتيال الزعيم الاتحادي عمر بن جلون.
لقد شكلت أجواء العمل بالجريدة الناشئة محكيا رئيسيا، قائم الذات، تناوب على بلورته، وفق منظورات متغايرة، صحافيون وعاملون بالجريدة، منهم أساسا زهوان، والمصطفاوي، وعبد الهادي، وقاسم. هؤلاء عكسوا جميعا، كلّ من منظوره، وجهات نظر متناغمة أو متنافرة حول التجاذبات المعتملة بالجريدة، وانعكاس الخلافات الحزبية على وضعية صحافييها والعاملين فيها.
لم يكن زهوان، برغم عمله بالجريدة، منتميا للحزب. كان يقيم بالأحرى في مسافة الانفصال والاتصال مع تنظيم يقاسمه المبادئ التي يناضل من أجلها، دون أن يرهن حريته الذاتية وأهواءه الفردية واستقلاله الفكري بالانتماء إلى التنظيم والتماهي معه. هو رجل يحب الحياة، ويقبل عليها بنهم، ينهل منها بلا احتساب، ولا يقبل الوجوم والجدية المفرطة التي تعلو وجوه المناضلين، والنفور بداعي النضال، من الحياة ومتعها. كما أنه ينفر من السلط والزعامات والولاءات أيا كانت طبيعتها، بما فيها تلك التي تنشأ داخل التنظيم الحزبي وتبسط نفوذها عليه.
هذه المسافة القلقة التي يقيم فيها زهوان، هي المسافة ذاتها التي تقيم فيها الكتابة، المسافة التي تجعلها قلقا، وعصيانا، ونفيا للتماهي والتطابق. لقد أشارت الرواية غير ما مرة إلى علاقة زهوان بالكتابة، وبمؤلف « العنف في الدماغ»، المجموعة القصصية المأثورة التي ألفها المديني في بداية السبعينات، و  « عند بوطاقية «، المجموعة القصصية التي ألفها المديني أيضا عام 2010 ، والتي عكست إحدى قصصها بهزل طافح أجواء حركة 20 فبراير بمدينة الرباط.
تنبئ الإشارة إلى هذه الصلات الأدبية إلى أن الرواية الجديدة تندرج بدورها ضمن سيرورة كتابة، انطلقت فائرة منذ السبعينات، واستمرت إلى الآن، لاهبة، تُخلص لجمالياتها الأولى، جماليات الانفصال، وتمعن في اختبار احتمالاتها وإبدالاتها. لذا بدت سردية زهوان نقدية، فاضحة، ضاحكة، عابثة وهازئة من السلط المبثوثة سواء في الداخل (داخل الحزب والعمل بالجريدة..)، والخارج (أجهزة الدولة الرقابية والزجرية، وحشد المخبرين المنتشرين في الأمكنة والفضاءات العامة).
في هذا السياق، شكل عمر بن جلون، بطبيعة شخصيته المرحة ومقامه السياسي والنقابي الرفيع، ثم بجريمة اغتياله الفظيعة، مفصلا هاما في سردية زهوان ومعناها ومآلها. لقد استوعبت هذه السردية فجائعية اغتيال عمر، ونأت بها عن المناحة والتعبيرية الدرامية، باحتوائها في قالب التحقيق الصحفي، كي تجعل مادية التفاصيل ووصفها « البارد»، تنطق بهول الفاجعة وفداحة الحدث. لذا استحال السرد للحظة، تحقيقاً واستقصاءً، لاحتواء الفجيعة وإكسابها الصلافة المادية والمشهدية لجريمة جثمت على الحياة السياسية المغربية الحديثة.
لقد أضفت سردية زهوان على الرواية خطية متصاعدة، نمت على حوافها وتشعبت محكيات متعددة، شائقة، وحافلة بحيوات رجال الدار البيضاء: صحافيون مناضلون (المصطفاوي، قاسم، عبد العالي الودغيري…)، كتاب وشعراء ( المجاطي، الجوماري، زفزاف، النيسابوري، أحمد صبري) وفنانون ( ناس الغيوان، الركاب، المليحي…). هي جماع محكيات تناسلت على الخط المتنامي لسردية زهوان، وأبطأت خطيتها، لتصبح الرواية بفضلها مجرّة أسماء مختلفة، عكست وجودا إنسانيا متعدداً يسكن مدينة تكتنز بالحياة والمأساة في آن.
لقد اتخذت الرواية في النهاية منحى لَعِبياً، بعد أن تكاثفت أحداثُها، واشتد وقعُها على زهوان، خاصة واقعة تغطيته النارية لزيارة الرئيس المصري السادات للكنيست الإسرائيلي عام 1977 بالجريدة، وما خلفته من ردود فعل حادة وغاضبة من طرف زعامة الحزب، ثم تواجده في قلب انتفاضة 1981، يغطي أحداثها قبل أن يعتقل ويعرض على المحاكمة. هنا تنقلب الرواية لعبا محضا، إذ يطلب زهوان حضور المؤلف لتخليصه من الورطة التي وضعه فيها، وتنبيه الحضور (القراء) إلى أنه كائن من صنع الخيال، وليس كائنا حقيقيا، قد تذهب الظنون بالبعض إلى أنه يخفي هوية شخص معلوم، ثابت الوجود. إنه شكل من أشكال اللعب على الحدود الرهيفة والزلقة بين الخيال والواقع، بين داخل النص وخارجه، تجعل الرواية عند المديني، حتى وإن توافرت وتكاثرت علامات تمثيلها لواقع سابق ومفترض، خيالا ولعبا، أي كتابة أولا وأخيرا.
وبفضل هذا اللعب المحكم بين الواقع والخيال، استطاع المديني أن يبدع رواية- مدينة، ويهب الدار البيضاء، إلى جانب وجودها المعلوم والمشهود، وجوداً آخر، بهوية جديدة، أكثر ثراء، بفضلها ستسكن المدينة متخيل الأدب وتكتسب، عن جدارة، هوية المدن الروائية.


الكاتب : يوسف دحان

  

بتاريخ : 02/04/2021